إنه حقاً معرض مختلف هذا الذي شاهدته في «دارة الفنون» تحت عنوان «نثرٌ من الجذور» بما لا يعني إعادة التجذير أو الحنين إلى جذورنا بل بناء قنوات جديدة بالأرض، كما كتبت رنا بيروتي منسقته في البطاقة التعريفية الموزعة عَلى رواده والتي تتصدرها كلمات جلال الدين الرومي: «لربما إنك باحث في الأغصان عما لا يظهر الا في الجذور"! وفي هذا المعرض المدهش ببساطته وتعقيده معاً تتوضح بالصور والمجسمات أهمية القمح ليس في خبزنا فحسب بل في كثير من أطعمتنا القديمة بأطباقها المتنوعة المحتوية على البرغل والفريكة وسواهما، كما تظهر بجلا? رحلته في تاريخ بلادنا وكيف ظلت لآلاف السنين رحلة خير وبركة ونفع غذائي عظيم كانت تعم سكان المنطقة وتفيض، لكننا رأيناها تتحول آخر المطاف مع الزمن الرديء لمطاحن ومخابز تاهت في دهاليزها وحواليها لفترة غير قصيرة مسؤولية فقدان اليود ونقص فيتامين (أ) والحديد وهبوط نسبة البروتين او نوعيته وكلها كانت تؤدي بصمت مشين لأمراض ومضاعفات خطيرة عقلاً وجسداً لدى الآلاف خاصةً من الأطفال، وقد مرت هذه الرحلة بشح قمح بلادنا الى درجة الاعتماد على الاستيراد فالاستسلام الكامل.
وفي مكان قصيّ من حديقة هذا المعرض تحتوي «الغرفة» على مرمّماتٍ متنوعة لها بالجذور بعض علاقة، وقد استوقفتني مِزقة من كتاب قديم تآكلت حوافها بعوامل الزمن والصدأ والعفن، واسودّت بسناج حريق لم يأتِ عليها كلها، وتروي سطورها الباقية جزءاً من قصة جاسوس إنجليزي من أصل إيراني كان يعيش في مصر، واسمه (...) هو الذي رجع بي الى ماض يزيد على ثلاثة ارباع القرن حين كنا اطفالاً نتهامس حول معلّم عربي مهم في مدارسنا يُشاع انه عميل لحكومة الانتداب البريطاني في القدس ويحمل اسماً شبيهاً او قريباً..!
إن هذا المعرض المثير للتفكير عند قوم لا بد يتفكرون، والمقامُ في موقع قديم من عمان ما زالت ذكريات اجتماعية او سياسية تحوم في جنباته ففي «البيت الأزرق» من دارة الفنون الآن كان يقيم اسماعيل عبده وصورته طياراً ايام الحرب العالمية الاولى معلقة في صدر غرفة الضيوف حين كنت وابنه اسامة رفيقي في الصف نستعد لامتحان المترك، وفي «دار خالد» كان يسكن سليمان النابلسي رئيس الوزراء الأشهر في ذلك الزمان وقد قضى فيه ردحاً من إقامته الجبرية بعد إقالته، وفي «المبنى الرئيسي» قطن فريدريك بيك (باشا) أول قائد بريطاني للجيش العربي ا?اردني، وما زالت أيضاً ذكريات الحب الأول في مرابعه يانعة في قلوب من طال عمرهم من أبناء وبنات جيلي في جبل اللويبدة.
وبعد.. فهل يوقظ مثل هذا المعرض عند آخرين ذكرياتٍ ذاتَ بال؟!