تمثل الصور الذهنية المتقابلة Mirror Image التي تحتفظ بها المجتمعات تجاه بعضها البعض عاملاً مهماً لا يجوز تجاوزه في تحليل العلاقات الدولية سواء في الحالات السلمية أم الصراعية، وتتأثر هذه الصورة بعدد من المتغيرات التي تساعد على تشكيلها وأهمها:[2]
1. طبيعة العلاقات التاريخية بين المجتمعين موضوع الدراسة.
2. طبيعة البيئة الإقليمية والدولية لحظة دراسة هذه العلاقة.
3. نمط نظام الحكم ودرجة تأثره بالصور الذهنية للمجتمع، وهنا تتمايز الأنظمة الديموقراطية عن الاستبدادية، حيث تتوارى الصورة الذهنية المجتمعية في المجتمعات الاستبدادية لصالح الصورة الذهنية لدى صانع القرار.
4. مستوى التعليم والوعي، وقدرته في التأثير في القدرة على "عقلنة" الصور الذهنية.
5. منظومة القيم السائدة في كل مجتمع ودرجة تباعدها أو تقاربها مع المجتمع المقابل، إذ تعبّر نظرية التمثيل الاجتماعي Social Representationsا[3] عن مفهوم الصور الذهنية على أنها صورة ترسمها أدبيات التراث الثقافي والمنظومة القيمية للمجتمع، والسمة المركزية للعلاقات التاريخية بين مجتمع وآخر، ويشكل هذا المتغير الأخير (العلاقات التاريخية) محور الدراسة التي أنتجتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO)، ونشرت سنة 1953، وشملت تسع دول، وقامت الدراسة على أساس تحديد صورة الآخر (المجتمع الآخر) والذات في ذهن الرأي العام المحلي، لتحديد ما هي أهم المتغيرات الحاكمة في صورة الآخر لدى الذات، لتصل الدراسة إلى أن طبيعة العلاقة التاريخية هي الأساس في رسم الصورة لدى مجتمع عن مجتمع آخر.[4]
أولاً: الإطار التاريخي للعلاقة الإيرانية الإسرائيلية:[5]
يحسن بنا التوقف بداية عند خلفية تاريخية للعلاقة بين اليهود والإيرانيين (الفرس)، وربما تكون نقطة البداية في هذه العلاقة هي مساعدة ملوك فارس (قورش Cyrus تحديداً) في القرن السادس قبل الميلاد لليهود على العودة لإعادة بناء"الهيكل" المفترض.
وتأتي المرحلة الثانية مع الدولة الساسانية التي جعلت من الديانة الزرادشتية ديانتها الرسمية، ونَحَت هذه الدولة منحى اضطهاد الأديان الأخرى بما فيها اليهودية، على الرغم من أن فترات شابور الأول Shapur I وشابور الثاني Shapur II كانت الأقل حدة.
وفي عهد الدولة الإسلامية لم يعانِ يهود إيران من الاضطهاد، ولكن مع قدوم هولاكو Hulagu Khan إلى إيران سنة 1255 بدأت مرحلة اضطهاد اليهود من قبل المغول (لا سيّما في فترات غازان خان Ghazan Khan وأولجيتو M.Oljeitu)، وفي سنة 1383 غزا تيمورلنكLenk Timur فارس واستولى عليها سنة 1385 ونقل جزءاً من اليهود المهرة إلى سمرقند (عاصمته) لتطوير الصناعة فيها لا سيّما صناعة الأقمشة.
على أن التحوّل في العلاقة نحو الأسوأ بدأ مع اعتناق الدولة الصفوية للمذهب الشيعي، حيث سادت في هذه المرحلة النظرة لليهود كـ"أنجاس" على الرغم من الودّ الذي أبداه شاه إسماعيل Isma‘il I تجاههم (1629-1588)، فقد كان لرجال الدين الشيعة موقف حاد من اليهود إلى حدّ تأليب السكان عليهم والعمل على طردهم من أصفهان، وكان للفتاوى الدينية الشيعية دور واضح في رسم صورة ذهنية سلبية لليهود إلى حدّ تحريم البيع والشراء معهم، أو تحريم شرب الماء من كأس لمسه يهودي، أو تحريم تناول طعام أعده يهودي، بل واعتبارهم في مراحل تاريخية لاحقة جزءاً من مؤامرة الغرب لتحطيم الإسلام،[6] لكن موجة من التسامح معهم عادت لفترة قصيرة خلال فترة حكم Nader Shah نادر شاه (1747-1736).
أما في مرحلة الدولة القاجارية، فتواصلت فتاوى رجال الدين الشيعة ضد اليهود مما دفع الدولة القاجارية إلى العودة للضغط على اليهود.
ولم يكن الشاه رضا Reza Shah في المرحلة التالية، يخفي تعاطفه مع اليهود في بداية الأمر، لكن تقاربه مع ألمانيا النازية في مرحلة الثلاثينيات جعله يخفف من هذه العلاقة، ومع قيام الكيان الإسرائيلي 1948 كان عدد اليهود في إيران نحو 140–150 ألف يهودي، غير أن تنامي دور رجال الدين في إيران وصعود الجبهة القومية الإيرانية National Front (Iran) زمن مصدق Mohammad Mosaddegh، دفع إلى هجرة أكثر من ثلث اليهود الإيرانيين إلى فلسطين خلال الفترة من 1953-1948، لكن هزيمة الجبهة القومية وعودة الشاه محمد رضا إلى السلطة جعلت ظروفهم المعيشية تتطور بشكل كبير في إيران (كان 80% منهم من الطبقة الوسطى مقابل 10% أغنياء و10% من الفقراء).
ومنذ سنة 1979 حتى بدايات سنة 2008، تراجع عدد اليهود إلى أقل من 40 ألف نسمة، يعيش أكثر من نصفهم في طهران، ولهم معابدهم الدينية التي يصل عددها إلى 25 معبداً منها 11 معبداً في طهران.
وكان آية الله الخميني Ayatollah Khomeini قد أصدر فتوى بضرورة حماية الدين اليهودي من الاضطهاد، مؤكداً على التمييز بين اليهودية والصهيونية، كما تمّ منح الأقلية اليهودية مقعداً في مجلس الشورى الإيراني Islamic Consultative Assembly، غير أن ذلك ترافق مع اعتقالات لبعض منهم في فترات مختلفة بتهم التجسس لصالح "إسرائيل"، كما حدث سنة 2000 وما بعدها حتى الأيام الحالية.
ويعتقد الباحثون الإسرائيليون أن الشيعة لديهم نظرة "عنصرية" ضدّ اليهود بل يطالبون بتصفيتهم وتصفية "إسرائيل"، ويورد الباحث الإسرائيلي دوف ديل Dove Dell، والذي عمل لأكثر من عشرين عاماً في الدوائر الاستخبارية الإسرائيلية إلى جانب دوره في الجيش الإسرائيلي، نماذج من هذه الآراء.[7]
وتبدو صورة بعض الإيرانيين خصوصاً من الرسميين أو بعض رجال الدين، أكثر إيجابية في المنظور الإسرائيلي، بل إن العقل الإسرائيلي رسم صورة تراتبية لمستويات العداء لـ"إسرائيل" في العقل الإيراني، يقف الخميني أو محمود أحمدي نجاد Mahmud Ahmadinejad ومن يتبعهم على رأس قائمة العداء، بينما نجد أن بعض الشخصيات مثل وزير الداخلية في حكومة الرئيس محمد خاتمي Mohammad Khatami وهو حجة الإسلام عبدالله نوري Abdullah Nouri في ذيل قائمة العداء؛ استناداً لتردده في دعم الفلسطينيين في عدائهم لـ"إسرائيل"، ومطالبته بأن تكفّ إيران عن التدخل في الشأن الفلسطيني حسب رأيه، وتكشف دراسة للأستاذ في جامعة تل أبيب ديفيد ميناشري David Menashri هذه التراتبية بشكل واضح.[8]
ثانياً: ما الذي يمكن استنتاجه من الإرث التاريخي السابق؟
إن الاتجاه العام يشير إلى أن موقف رجال الدين الشيعة من اليهود كان موقفاً عدائياً في معظمه، فقد كانوا في أغلب الأحيان وفي معظم المراحل يقفون موقفاً تحريضياً منهم، وهو ما يعني أن الموقف الحالي للدولة الإيرانية هو موقف منسجم مع توجه تاريخي، لا سيّما أن الدولة الحالية دولة يغلب على الخلفية الفكرية لمعظم قياداتها البعد الديني المذهبي.
أما الأدبيات السياسية المعادية لـ"إسرائيل" في إطار الحركة الوطنية الإيرانية المعاصرة فتعود إلى فترة الأربعينيات، عبر منشورات "فدائيي الإسلام Fedayeen Islam" التي تعدُّ أول منظمة إسلامية أصولية في إيران تستخدم القوة المسلحة كوسيلة شرعية للمقاومة، وكان لبعض قياداتها علاقات مع الحركات الإسلامية في المنطقة العربية لا سيّما مع الإخوان المسلمين في مصر، وهو ما أسهم في تعزيز نزعة العداء لليهود والصهيونية.[9]
ويمكن إيجاز مراحل العلاقة الحديثة والمعاصرة بين إيران و"إسرائيل" على النحو التالي:
• 1947: عارضت إيران قرار تقسيم فلسطين.
• 1948: أقامت إيران علاقات ديبلوماسية مع "إسرائيل" على مستوى منخفض.
• 1951 تمّ قطع العلاقات بين الطرفين في فترة صعود حكومة مصدق.
• 1953: أعيدت العلاقة بسقوط مصدق.
• 1956: وقفت إيران مع العدوان الثلاثي على مصر والذي شاركت فيه "إسرائيل"، بعد مهاجمة الرئيس جمال عبد الناصر لحلف بغداد.
• 1960: عادت العلاقات الإيرانية الإسرائيلية إلى الاعتراف الواقعي De facto.
• 1979 إلى الآن: تمّ قطع العلاقة بين الطرفين على إثر الثورة الإيرانية، وتمّ إغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران من ناحية وفتح سفارة لفلسطين من ناحية أخرى، وبدأت مواجهة بين الطرفين، مارس كل طرف الضغط على الطرف الآخر سياسياً، واقتصادياً إلى جانب مواجهات عسكرية غير مباشرة مستمرة حتى هذه اللحظة.
وتشير المعطيات السابقة إلى أن العلاقة الإيرانية الإسرائيلية كانت علاقة غير خطية Non linear، لكنها أسهمت في رسم الصور الذهنية المتبادلة بين الطرفين الإسرائيلي والإيراني.
ثالثاً: الصورة الذهنية المعاصرة لـ"إسرائيل" في المجتمع الإيراني:
تتمثل الصورة الذهنية لـ"إسرائيل" لدى المجتمع الإيراني المعاصر في سبعة جوانب:[10]
1. البعد الديني والمتمثل في الإرث الديني الشيعي الذي أشرنا له، وما كرسته أدبيات الثورة الإيرانية الدينية بخصوص يوم القدس الذي أعلنه الخميني، والفتاوى الدينية الخاصة بالتبرعات للمقاومين الفلسطينيين…إلخ، ناهيك عن تأثير مناهج التعليم والإعلام على عقول الإيرانيين الذين ولدوا بعد الثورة منذ أكثر من أربعين عاماً، والتي تتضمن صورة سلبية للمجتمع والدولة في "إسرائيل".
2. أن "إسرائيل" ليست إلا امتداداً للغرب الاستعماري، ولعل لقب الشيطان الأصغر ("إسرائيل") مقابل الشيطان الأكبر (أمريكا) هو من ضمن عبارات الخميني التي تكرست في الأدبيات السياسية الإيرانية، وشكلت صورة ذهنية لدى المجتمع الإيراني أو شرائح واسعة منه.
3. أن الصهيونية استغلت اليهود في تأجيج العداء للإسلام من ناحية، وفي المبالغة في موضوع المحرقة (الهولوكوست Holocaust) من ناحية أخرى، وكان لخطابات أحمدي نجاد في هذا المجال الدور المهم في تأكيد هذا البعد في الصورة الذهنية الإيرانية لـ"إسرائيل".
4. المنظور الاستراتيجي باعتبار "إسرائيل" قوة تنافس إيران على المكانة الإقليمية، وهو ما يبدو من تحليل دلالات التصريحات الرسمية الإيرانية.
5. أن الصورة الذهنية لدى إيران عن "إسرائيل" أسهمت في تعميق الصورة السلبية لـ"إسرائيل" في بعض المناطق العربية سنية أو شيعية.[11]
وتعززت هذه الصورة من خلال سياسات الدولة الإيرانية من ناحية، وبعض النشاطات الفكرية والأدبية ذات المدلول الرمزي من ناحية أخرى، مثل تغيير اسم شارع في طهران في سنة 2004 من شارع خالد الإسلامبولي (قائد مجموعة اغتيال الرئيس المصري الأسبق أنور السادات) وتحويله إلى شارع الانتفاضة الفلسطينية.
6. دور "إسرائيل" في تأييد فكرة الاحتواء المزدوج خلال الحرب العراقية الإيرانية بين 1988-1980، بهدف استمرار القتال وإنهاك الطرفين وهو ما ردده مناحيم بيغن Menachem Begin، كما أن العلاقات الحميمية بين الشاه و"إسرائيل" تركت صورة سلبية عن "إسرائيل" في الشارع الوطني والديني الإيراني.[12]
7. لعب الإعلام الإيراني دوراً في تعميق فكرة محددة، وهي أن العدو المركزي لإيران هي الولايات المتحدة، وأن "إسرائيل" هي أحد أهم أدوات الولايات المتحدة في منع تطور إيران، وهو ما يتضح في الملامح التالية:[13]
أ. الإرث التاريخي المعاصر حيث تدخلت الولايات المتحدة في سنة 1953 وأجهضت محاولة بناء نظام ديموقراطي في فترة محمد مصدق، وحيث إن الولايات المتحدة و"إسرائيل" متطابقتا التوجهات السياسية، أصبح الموقف من "إسرائيل" انعكاساً للموقف من أمريكا، كما أن خصوم إيران هم جميعاً حلفاء الولايات من دول غربية أو عربية.
ب. اعتبار "إسرائيل" أحد أهم عوامل زعزعة الاستقرار السياسي في إيران.
ج. اعتبار الولايات المتحدة متغيراً أساسياً في لجم القوة الإيرانية في مواجهة "إسرائيل".
د. توظيف القوى السياسية الإيرانية للعداء تجاه "إسرائيل" في تنافسها الداخلي.
هـ. المراهنة الإسرائيلية على "الحركة الخضراء" الإيرانية لتغيير التوجه السياسي للدولة الإيرانية ترك انطباعاً سلبياً لصورة "إسرائيل".
رابعاً: الصورة الإيرانية في الذهن الإسرائيلي:
كيف ينظر الإسرائيليون لإيران المعاصرة؟ للتعرف على صورة إيران في الذهن المجتمعي الإسرائيلي، نستعرض بداية نتائج استطلاعات الرأي الإسرائيلي خلال السنوات الأربع السابقة حول هذا الموضوع، إلى جانب الصورة التاريخية للعلاقات بين الطرفين والتي أشرت لها فيما سبق، إلى جانب تأثير اليهود الإيرانيين في "إسرائيل" على هذه الصورة، ويبلغ عدد اليهود من أصول إيرانية في "إسرائيل" قرابة 135 ألف نسمة، وبدأت "إسرائيل" بتقديم إغراءات للمتبقين في إيران للهجرة لفلسطين المحتلة ويبلغ عددهم نحو 25 ألف نسمة لكن أغلبهم لم يستجب لهذه الإغراءات.[14]
وتتمثل أبعاد الصورة الذهنية الإسرائيلية لإيران في الملامح التالية:
1. اعتبار إيران مصدر خطر على "إسرائيل":[15]
جدول رقم 1: نسبة الإسرائيليين الذين يرون إيران خطراً وجودياً على "إسرائيل"
خطر عالي جداً: 30%
خطر عالي: 31%
خطر معتدل: 24%
خطر ضعيف: 6%
ليست خطراً على الاطلاق: 2%
لا يعرف: 8%
تكشف نتائج الاستطلاعات الواردة في جدول رقم 1، أن 61% من الإسرائيليين يصنفون إيران في خانة الخطر العالي جداً والعالي، بينما لم يتجاوز الإسرائيليون الذين نظروا لها على أنها لا تشكل خطراً أو أنها خطر ضعيف ما مجموعه 8%.
2. تأييد مهاجمة المنشآت الإيرانية دون موافقة الولايات المتحدة:
ويكاد متغير السعي الإيراني لبرنامج نووي متطور يمثل المصدر الأكثر تأثيراً في النزوع الإسرائيلي لمواجهة إيران، ويتضح أن نسبة الإسرائيليين الذين يساندون فكرة مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية "بدون" موافقة الولايات المتحدة أعلى بكثير من المعترضين على هذه الخطوة، ويلاحظ أن نسبة المؤيدين بقوة للمهاجمة يعادل خمسة أضعاف نسبة الرافضين للخطوة كما يتضح من جدول رقم 2.
جدول رقم 2: مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية "بدون" موافقة الولايات المتحدة
قوي: 31%
معتدل: 27%
غير موافق إلى حد ما: 19%
غير موافق بشكل تام: 6%
لا يعرف: 17%
3. صورة إيران في ذهن طلاب المدارس الإسرائيليين (وهم قادة المستقبل):
جدول رقم 3: صورة إيران في ذهن طلاب المدارس اليهود في "إسرائيل"[16]
المعرفة عن إيران: 2.4/5
إيران خطر عالمي: 3.71/5
إيران خطر على "إسرائيل": 4.03/5
العلاقة مع إيران مستقبلاً ستكون إيجابية: 2.8/5
إيران دولة مستقرة: 2.46/5
وتبدو صورة إيران في ذهن اليهودي الإسرائيلي بأنها انعكاس لخبرتين تاريخيتين، الأولى أن إيران—في الذهن الإسرائيلي—تكرار لنموذج هتلر Hitler ومعاداة السامية، والثانية أن الخوف منها ناتج عن "رعايتها الإرهاب والعمل على تطوير برنامجها النووي"، وتبدو من إجابات المجموعات اليهودية أن السفارديم Sephardim أكثر نزعة عدوانية تجاه إيران ويرون الحل بتدميرها، بينما الأشكناز Ashkenazim يرون أن حلّ المشاكل مع إيران يحتاج لتدبر وتفكير. ويدل جدول رقم 3، أن الطلاب الإسرائيليين، وهم قادة المستقبل، يختزنون صورة عدائية حادة لإيران تصل إلى مستوى يفوق 80% من زاوية الخطر الإيراني عليهم، لكن هذه الصورة تنطوي على بعد آخر يتمثل في أن الطلاب الإسرائيليين يعتقدون بأن العلاقات الإيرانية الإسرائيلية ستكون إيجابية مستقبلاً بمعدل يفوق 50%.
غير أن الصورة الإيرانية لدى الإسرائيليين تشتمل على بعد مهم آخر وهو المنافسة العلمية، فصورة التقدم العلمي من خلال بعض المؤشرات مثل تفوق الإيرانيين في الامتحانات الدولية في مواد مثل الرياضيات أو في عدد المنشورات العلمية التي تسجل نمواً واضحاً في مستويات الاقتباس Citation index في الكيمياء، والهندسة، والبيولوجيا، والكيمياء الحيوية تعزز هذا القلق من التطور العلمي الإيراني خصوصاً أن الإيرانيين يحتلون المراتب الأولى إقليمياً في هذه العلوم، متقدمين على "إسرائيل" وعلى العالم العربي.[17] وهو ما يعني أن الصورة الذهنية الإسرائيلية تنطوي على ثنائية الكراهية والإحساس بالخطر من ناحية والإعجاب من ناحية أخرى، وهو أمر يكرس الإحساس بالخطر الإيراني في بنية الصورة الذهنية الإسرائيلية.
من جانب آخر، يحاول العقل الإسرائيلي التأكيد على صورة محددة وهي "الاستعلاء الفارسي" على الحضارة العربية، والتركيز على بعض المقارنات الواردة في الأدبيات الفكرية الإيرانية الخاصة بمقارنة التشيّع والتسنن، حيث يتم ربط ثقافة التشيع والثقافة الفارسية بالمدينة من ناحية وبدور المفكرين الفرس في الحضارة الإسلامية من ناحية ثانية، وأخيراً تكريس فكرة الانتماء الإيراني للعرق الآري، مقابل الثقافة العربية "البدوية" الممتزجة بالأسطورة وحرفية "النص البداوي" طبقاً للمنظور الإسرائيلي، وهو أمر يستندون فيه على بعض كتابات علي شريعتي Ali Shariati بصفته أحد أبرز مفكري الثورة الإيرانية إلى جانب غيره من المفكرين. [18]
خامساً: صورة إيران في بحوث مراكز الدراسات الإسرائيلية:[19]
قمنا باختيار ستة مراكز دراسات إسرائيلية هي الأكثر عناية بالموضوعات المتعلقة بعلاقات "إسرائيل" الدولية، وهذه المراكز هي:
1. مركز بيغن – السادات للدراسات الاستراتيجية Begin-Sadat Center for Strategic Studies.
2. معهد دراسات الأمن القومي Institute for National Security Studies.
3. "مجلس إسرائيل للعلاقات الخارجية Israel Council on Foreign Relations".
4. مركز القدس للشؤون العامة Jerusalem Center for Public Affairs.
5. ميتفيم – المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية Mitvim – The Israeli Institute for Regional Foreign Policies.
6. مركز موشي ديان للدراسات الشرق أوسطية والإفريقية Moshe Dayan Center for Middle Eastern and African Studies.
ومن خلال الاطلاع على مضامين دراسات هذه المراكز، تبين لنا النتائج التالية الخاصة بالموضوع الإيراني:
جدول رقم 4: موضوعات البحث حول إيران في مراكز الأبحاث الإسرائيلية
(يمكن الاطلاع على الجدول على موقعنا)
وتشير أدبيات المراكز البحثية الإسرائيلية الخاصة بإيران إلى ما يلي:
1. بلغ مجموع الدراسات الصادرة عن إيران في هذه المراكز الإسرائيلية الستة ما مجموعه 196 دراسة (مع تباين في تاريخ تأسيس هذه المراكز).
2. تصدر معهد دراسات الأمن القومي المركز الأول في عدد الدراسات عن إيران، وبلغ عدد دراساته 96 دراسة، أي نحو 49% من مجموع الدراسات.
3. كانت موضوعات العلاقات الإيرانية العربية والدولية هي الأعلى بين اهتمامات مراكز الدراسات الإسرائيلية (56 دراسة)، وجاء في المرتبة الثانية موضوع أوضاع إيران الداخلية (42)، يليه موضوع البرنامج النووي الإيراني (33).
4. يلاحظ أن كلاً من معهد دراسات الأمن القومي ومجلس الشؤون الخارجية هما الأكثر تركيزاً على العلاقات الصينية الإسرائيلية.
5. أن السمة المركزية لمضمون الأدبيات الإسرائيلية في هذه المراكز هو "إدارة الصراع مع إيران" وغياب بشكل كبير لموضوعات التعاون أو الصورة الإيجابية.
سادساً: نماذج من دراسات مراكز الأبحاث الإسرائيلية حول إيران:
1. احتمالات الحرب الإيرانية الإسرائيلية في دراسة معهد الأمن القومي:
كان لاغتيال القائد الإيراني قاسم سليماني Qasem Soleimani سنة 2020 تأثيره الكبير على تصاعد التوتر الإيراني الإسرائيلي، على الرغم من أن الاغتيال تمّ من قبل الولايات المتحدة التي أعلن رئيسها ذلك بشكل رسمي،[20] وحددت دراسة لمعهد الأمن القومي الإسرائيلي مصادر الخطر في ثلاث جبهات هي: شمال فلسطين المحتلة (حزب الله)، والمقاومة في غزة، وإيران ذاتها. وتبرر دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي أن الخطر الإيراني يتجسد في:[21]
أ. برنامجها التكنولوجي العسكري ممثلاً في البرنامج النووي وفي برنامجها الصاروخي.
ب. التنظيمات المسلحة المرتبطة بإيران مثل حزب الله، والمقاومة الفلسطينية في غزة، وأنصار الله في اليمن، وأغلب التنظيمات الشيعية المسلحة في العراق، لكن برنامج الصواريخ الدقيقة الذي يعمل عليه حزب الله هو الخطر الثاني الأكبر بعد البرنامج النووي الإيراني.
ج. التواجد العسكري الإيراني المجاور جغرافيا لـ"إسرائيل" خصوصاً في سورية.
د. القلق من أن تراجع المكانة الاستراتيجية للشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية قد يُغري محور المقاومة لاستغلال ذلك بشكل يدفع لمزيد من المواجهة مع "إسرائيل" بتعاون بين كل القوى المشكلة لمحور المقاومة.
ولمواجهة هذه المخاطر يقترح معهد الأمن القومي الإسرائيلي العمل على:[22]
أ. توسيع دائرة التطبيع العربي – الإسرائيلي مترافقاً مع توسيع دائرة التوتر في العلاقات العربية الإيرانية كما اتضح من مؤتمر النقب في آذار/ مارس 2022، وفي أعقاب مؤتمر قمة حضره الرئيس المصري، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، وولي العهد الإمارتي (رئيس الدولة حالياً). لكن بعض المؤشرات تبدو مقلقة من هذه الناحية لـ"إسرائيل"، مثل تزايد احتمال عقد اتفاق جديد بين الولايات المتحدة وإيران بخصوص البرنامج النووي الإيراني، وضعف الردود السعودية والإماراتية على ضربات أنصار الله لمواقع حساسة، وتلكؤ الدول الخليجية في إبداء توافق مع المطلب الغربي لزيادة الإنتاج من الطاقة لتخفيف الأزمة الطاقوية الناتجة عن الأزمة الأوكرانية، ناهيك عن غياب الطرف الفلسطيني والأردني عن مناقشات العلاقات العربية الإسرائيلية في مؤتمرات النقب في 2022.
ب. التوصية بضرورة وضع خيار عسكري مشترك مع أمريكا لمواجهة البرنامج النووي الإيراني.
هناك ارتباك واضح في التقييمات الإسرائيلية لقضية الاتفاق على البرنامج النووي الإيراني بين إيران والولايات المتحدة،[23] فهناك من يرى أن الاتفاق أفضل من عدمه (رئيس الاستخبارات العسكرية الأسبق عاموس يدلين Amos Yadlin، وأهارون فاركاش Aharon Zeevi Farkash من الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أيضاً، ووزير الدفاع الأسبق موشيه يعلون Moshe Ya’alon، ورئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت Gadi Eisenkot، ورئيس الموساد Mossad السابق تامير باردو Tamir Pardo)، وهناك من يرى أن عدم التوصل لاتفاق هو الأفضل (مثل رئيس الوزراء السابق نتنياهو Netanyahu، والحالي بينيت Bennett).
2. دراسات مركز موشي ديان للدراسات الشرق أوسطية والإفريقية:
يركز هذا المركز في دراساته لإيران على ثلاثة مواضيع: وسائل التواصل الاجتماعي حول إيران وداخلها، والتنافس الروسي الإيراني التركي في سورية وموقف هذه الدول من السعودية، ومتابعة عمل المؤسسات السياسية الإيرانية وشخصياتها ومؤسسات المعارضة. ويغلب على الكتابات الطابع العدائي والتشكيك في العلاقة بين المجتمع الإيراني والسلطة.[24] وتتناغم دراسات هذا المركز مع دراسات مركز حاييم هيرتزوج لدراسات الشرق الأوسط والديبلوماسية The Chaim Herzog Center for Middle East Studies and Diplomacy الذي يركز على دراسة البنية الثقافية الإيرانية.[25]
3. دراسات مركز بيغن السادات للدراسات الاستراتيجية:
يغلب على دراساته الطابع "الدعائي"، والخطابة، والإنشائية؛[26] قياساً مثلاً بالنظرة الأكثر أكاديمية لدراسات ميتفيم – المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية، والتي كثيراً ما ورد فيها دراسات تنتقد التوجهات الإسرائيلية خصوصاً في التعاطي مع العلاقة مع إيران.[27]
ويقدم مركز بيغن السادات معلومات عامة عن إيرانيي "إسرائيل"، وتشير أحد دراساته بالمقابل عن وضع اليهود في إيران إلى أن عدد سكان اليهود في إيران 2021 هو بين 8,500–20,000 نسمة، أما وضعهم السياسي والاجتماعي فهو على النحو التالي طبقاً لدراسات مركز بيغن السادات الإسرائيلي:[28]
أ. يعدّ الدين اليهودي أحد الأديان المعترف بها في إيران إلى جانب الإسلام، والمسيحية، والزرادشتية.
ب. لكل من الأديان اليهودية والمسيحية والزرادشتية ممثل واحد في السلطة التشريعية.
ج. يسمح لمعتنقي الدين اليهودي (وغيره) ممارسة شعائرهم الدينية في حدود القانون.
د. وفقاً لما تقوله اللجنة اليهودية في طهران، فقد تابعت خمس مدارس يهودية وروضة أطفال عملها في طهران، لكن السلطات طلبت من مديريها أن يكونوا مسلمين. وبحسب ما ورد، واصلت الحكومة السماح بتدريس اللغة العبرية لكنها حدت من توزيع النصوص العبرية، ولا سيّما النصوص غير الدينية، مما جعل من الصعب تعليم اللغة، وفقاً للمجتمع اليهودي. وبحسب ما ورد، طلبت الحكومة الإيرانية من المدارس اليهودية أن تظل مفتوحة أيام السبت، وتعتبر الدراسة الإسرائيلية ذلك انتهاكاً للقانون الديني اليهودي بذريعة التوافق مع جدول بقية المدارس الإيرانية الأخرى.
هـ. وفقاً للجنة اليهودية في طهران، فقد كان هناك 31 كنيساً يهودياً في طهران، أكثر من 20 منها نشط، و100 كنيس يهودي في جميع أنحاء البلاد. وقال ممثلو الجالية اليهودية إنهم يتمتعون بحرية السفر داخل وخارج البلاد، ولم تفرض الحكومة بشكل عام حظراً على سفر اليهود إلى "إسرائيل"، على الرغم من أنها فرضت حظراً على سفر مواطنين آخرين إلى "إسرائيل".
و. لكن المنظور الديني الشيعي لليهودية يبدو—من وجهة النظر الإسرائيلية الأكاديمية—أكثر عداء لها من المنظور السني.
*
وتكشف دراسة أكاديمية بريطانية لروسي جاسبل Rusi Jaspal[29] أن هناك نوعاً من الاستعصاء للإيرانيين اليهود في فلسطين في القدرة على التماهي مع الهوية الإسرائيلية على حساب هويتهم الإيرانية الأصلية، وتشير الدراسة القائمة على بحث ميداني أن هذه الظاهرة واضحة بين اليهود الإيرانيين في "إسرائيل" والذين يشكلون ما بين 3–4% من سكان "إسرائيل".
الخلاصة:
يمكن تحديد مؤشرات الصور الذهنية لطرفي العلاقة في الآتي:
1. لو حسبنا الفترات التاريخية التي تغلب فيها التضاد بين اليهود والإيرانيين سنجد أنها أوسع في الامتداد الزمني من فترات التناغم بين الطرفين.
2. من جانب آخر، شكل البعد الديني الإسلامي في الثقافة الإيرانية أحد الأعمدة الرئيسية لهذا التضاد، كما عزز المذهب الشيعي هذا التضاد في الصورة الذهنية حول اليهود.
3. تشكل العلاقة الإسرائيلية الأمريكية أحد أركان تكوين الصورة الإيرانية.
4. شكلت الثورة الإيرانية في الصورة الإسرائيلية لإيران نقلة في تعميق التضاد بين الطرفين، وأسهمت أدبيات المذهب الشيعي المعاصر في تكريسها.
5. إن التقدم العلمي في إيران قياساً للإقليم، بما فيه "إسرائيل"، نقطة قلق قوية للنخب الإسرائيلية، وهو ما انعكس في النسبة العالية لاعتبار إيران الخطر الأول على "إسرائيل" لدى النخبة، والسلطة، والمجتمع الاسرائيلي.
1. طبيعة العلاقات التاريخية بين المجتمعين موضوع الدراسة.
2. طبيعة البيئة الإقليمية والدولية لحظة دراسة هذه العلاقة.
3. نمط نظام الحكم ودرجة تأثره بالصور الذهنية للمجتمع، وهنا تتمايز الأنظمة الديموقراطية عن الاستبدادية، حيث تتوارى الصورة الذهنية المجتمعية في المجتمعات الاستبدادية لصالح الصورة الذهنية لدى صانع القرار.
4. مستوى التعليم والوعي، وقدرته في التأثير في القدرة على "عقلنة" الصور الذهنية.
5. منظومة القيم السائدة في كل مجتمع ودرجة تباعدها أو تقاربها مع المجتمع المقابل، إذ تعبّر نظرية التمثيل الاجتماعي Social Representationsا[3] عن مفهوم الصور الذهنية على أنها صورة ترسمها أدبيات التراث الثقافي والمنظومة القيمية للمجتمع، والسمة المركزية للعلاقات التاريخية بين مجتمع وآخر، ويشكل هذا المتغير الأخير (العلاقات التاريخية) محور الدراسة التي أنتجتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO)، ونشرت سنة 1953، وشملت تسع دول، وقامت الدراسة على أساس تحديد صورة الآخر (المجتمع الآخر) والذات في ذهن الرأي العام المحلي، لتحديد ما هي أهم المتغيرات الحاكمة في صورة الآخر لدى الذات، لتصل الدراسة إلى أن طبيعة العلاقة التاريخية هي الأساس في رسم الصورة لدى مجتمع عن مجتمع آخر.[4]
أولاً: الإطار التاريخي للعلاقة الإيرانية الإسرائيلية:[5]
يحسن بنا التوقف بداية عند خلفية تاريخية للعلاقة بين اليهود والإيرانيين (الفرس)، وربما تكون نقطة البداية في هذه العلاقة هي مساعدة ملوك فارس (قورش Cyrus تحديداً) في القرن السادس قبل الميلاد لليهود على العودة لإعادة بناء"الهيكل" المفترض.
وتأتي المرحلة الثانية مع الدولة الساسانية التي جعلت من الديانة الزرادشتية ديانتها الرسمية، ونَحَت هذه الدولة منحى اضطهاد الأديان الأخرى بما فيها اليهودية، على الرغم من أن فترات شابور الأول Shapur I وشابور الثاني Shapur II كانت الأقل حدة.
وفي عهد الدولة الإسلامية لم يعانِ يهود إيران من الاضطهاد، ولكن مع قدوم هولاكو Hulagu Khan إلى إيران سنة 1255 بدأت مرحلة اضطهاد اليهود من قبل المغول (لا سيّما في فترات غازان خان Ghazan Khan وأولجيتو M.Oljeitu)، وفي سنة 1383 غزا تيمورلنكLenk Timur فارس واستولى عليها سنة 1385 ونقل جزءاً من اليهود المهرة إلى سمرقند (عاصمته) لتطوير الصناعة فيها لا سيّما صناعة الأقمشة.
على أن التحوّل في العلاقة نحو الأسوأ بدأ مع اعتناق الدولة الصفوية للمذهب الشيعي، حيث سادت في هذه المرحلة النظرة لليهود كـ"أنجاس" على الرغم من الودّ الذي أبداه شاه إسماعيل Isma‘il I تجاههم (1629-1588)، فقد كان لرجال الدين الشيعة موقف حاد من اليهود إلى حدّ تأليب السكان عليهم والعمل على طردهم من أصفهان، وكان للفتاوى الدينية الشيعية دور واضح في رسم صورة ذهنية سلبية لليهود إلى حدّ تحريم البيع والشراء معهم، أو تحريم شرب الماء من كأس لمسه يهودي، أو تحريم تناول طعام أعده يهودي، بل واعتبارهم في مراحل تاريخية لاحقة جزءاً من مؤامرة الغرب لتحطيم الإسلام،[6] لكن موجة من التسامح معهم عادت لفترة قصيرة خلال فترة حكم Nader Shah نادر شاه (1747-1736).
أما في مرحلة الدولة القاجارية، فتواصلت فتاوى رجال الدين الشيعة ضد اليهود مما دفع الدولة القاجارية إلى العودة للضغط على اليهود.
ولم يكن الشاه رضا Reza Shah في المرحلة التالية، يخفي تعاطفه مع اليهود في بداية الأمر، لكن تقاربه مع ألمانيا النازية في مرحلة الثلاثينيات جعله يخفف من هذه العلاقة، ومع قيام الكيان الإسرائيلي 1948 كان عدد اليهود في إيران نحو 140–150 ألف يهودي، غير أن تنامي دور رجال الدين في إيران وصعود الجبهة القومية الإيرانية National Front (Iran) زمن مصدق Mohammad Mosaddegh، دفع إلى هجرة أكثر من ثلث اليهود الإيرانيين إلى فلسطين خلال الفترة من 1953-1948، لكن هزيمة الجبهة القومية وعودة الشاه محمد رضا إلى السلطة جعلت ظروفهم المعيشية تتطور بشكل كبير في إيران (كان 80% منهم من الطبقة الوسطى مقابل 10% أغنياء و10% من الفقراء).
ومنذ سنة 1979 حتى بدايات سنة 2008، تراجع عدد اليهود إلى أقل من 40 ألف نسمة، يعيش أكثر من نصفهم في طهران، ولهم معابدهم الدينية التي يصل عددها إلى 25 معبداً منها 11 معبداً في طهران.
وكان آية الله الخميني Ayatollah Khomeini قد أصدر فتوى بضرورة حماية الدين اليهودي من الاضطهاد، مؤكداً على التمييز بين اليهودية والصهيونية، كما تمّ منح الأقلية اليهودية مقعداً في مجلس الشورى الإيراني Islamic Consultative Assembly، غير أن ذلك ترافق مع اعتقالات لبعض منهم في فترات مختلفة بتهم التجسس لصالح "إسرائيل"، كما حدث سنة 2000 وما بعدها حتى الأيام الحالية.
ويعتقد الباحثون الإسرائيليون أن الشيعة لديهم نظرة "عنصرية" ضدّ اليهود بل يطالبون بتصفيتهم وتصفية "إسرائيل"، ويورد الباحث الإسرائيلي دوف ديل Dove Dell، والذي عمل لأكثر من عشرين عاماً في الدوائر الاستخبارية الإسرائيلية إلى جانب دوره في الجيش الإسرائيلي، نماذج من هذه الآراء.[7]
وتبدو صورة بعض الإيرانيين خصوصاً من الرسميين أو بعض رجال الدين، أكثر إيجابية في المنظور الإسرائيلي، بل إن العقل الإسرائيلي رسم صورة تراتبية لمستويات العداء لـ"إسرائيل" في العقل الإيراني، يقف الخميني أو محمود أحمدي نجاد Mahmud Ahmadinejad ومن يتبعهم على رأس قائمة العداء، بينما نجد أن بعض الشخصيات مثل وزير الداخلية في حكومة الرئيس محمد خاتمي Mohammad Khatami وهو حجة الإسلام عبدالله نوري Abdullah Nouri في ذيل قائمة العداء؛ استناداً لتردده في دعم الفلسطينيين في عدائهم لـ"إسرائيل"، ومطالبته بأن تكفّ إيران عن التدخل في الشأن الفلسطيني حسب رأيه، وتكشف دراسة للأستاذ في جامعة تل أبيب ديفيد ميناشري David Menashri هذه التراتبية بشكل واضح.[8]
ثانياً: ما الذي يمكن استنتاجه من الإرث التاريخي السابق؟
إن الاتجاه العام يشير إلى أن موقف رجال الدين الشيعة من اليهود كان موقفاً عدائياً في معظمه، فقد كانوا في أغلب الأحيان وفي معظم المراحل يقفون موقفاً تحريضياً منهم، وهو ما يعني أن الموقف الحالي للدولة الإيرانية هو موقف منسجم مع توجه تاريخي، لا سيّما أن الدولة الحالية دولة يغلب على الخلفية الفكرية لمعظم قياداتها البعد الديني المذهبي.
أما الأدبيات السياسية المعادية لـ"إسرائيل" في إطار الحركة الوطنية الإيرانية المعاصرة فتعود إلى فترة الأربعينيات، عبر منشورات "فدائيي الإسلام Fedayeen Islam" التي تعدُّ أول منظمة إسلامية أصولية في إيران تستخدم القوة المسلحة كوسيلة شرعية للمقاومة، وكان لبعض قياداتها علاقات مع الحركات الإسلامية في المنطقة العربية لا سيّما مع الإخوان المسلمين في مصر، وهو ما أسهم في تعزيز نزعة العداء لليهود والصهيونية.[9]
ويمكن إيجاز مراحل العلاقة الحديثة والمعاصرة بين إيران و"إسرائيل" على النحو التالي:
• 1947: عارضت إيران قرار تقسيم فلسطين.
• 1948: أقامت إيران علاقات ديبلوماسية مع "إسرائيل" على مستوى منخفض.
• 1951 تمّ قطع العلاقات بين الطرفين في فترة صعود حكومة مصدق.
• 1953: أعيدت العلاقة بسقوط مصدق.
• 1956: وقفت إيران مع العدوان الثلاثي على مصر والذي شاركت فيه "إسرائيل"، بعد مهاجمة الرئيس جمال عبد الناصر لحلف بغداد.
• 1960: عادت العلاقات الإيرانية الإسرائيلية إلى الاعتراف الواقعي De facto.
• 1979 إلى الآن: تمّ قطع العلاقة بين الطرفين على إثر الثورة الإيرانية، وتمّ إغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران من ناحية وفتح سفارة لفلسطين من ناحية أخرى، وبدأت مواجهة بين الطرفين، مارس كل طرف الضغط على الطرف الآخر سياسياً، واقتصادياً إلى جانب مواجهات عسكرية غير مباشرة مستمرة حتى هذه اللحظة.
وتشير المعطيات السابقة إلى أن العلاقة الإيرانية الإسرائيلية كانت علاقة غير خطية Non linear، لكنها أسهمت في رسم الصور الذهنية المتبادلة بين الطرفين الإسرائيلي والإيراني.
ثالثاً: الصورة الذهنية المعاصرة لـ"إسرائيل" في المجتمع الإيراني:
تتمثل الصورة الذهنية لـ"إسرائيل" لدى المجتمع الإيراني المعاصر في سبعة جوانب:[10]
1. البعد الديني والمتمثل في الإرث الديني الشيعي الذي أشرنا له، وما كرسته أدبيات الثورة الإيرانية الدينية بخصوص يوم القدس الذي أعلنه الخميني، والفتاوى الدينية الخاصة بالتبرعات للمقاومين الفلسطينيين…إلخ، ناهيك عن تأثير مناهج التعليم والإعلام على عقول الإيرانيين الذين ولدوا بعد الثورة منذ أكثر من أربعين عاماً، والتي تتضمن صورة سلبية للمجتمع والدولة في "إسرائيل".
2. أن "إسرائيل" ليست إلا امتداداً للغرب الاستعماري، ولعل لقب الشيطان الأصغر ("إسرائيل") مقابل الشيطان الأكبر (أمريكا) هو من ضمن عبارات الخميني التي تكرست في الأدبيات السياسية الإيرانية، وشكلت صورة ذهنية لدى المجتمع الإيراني أو شرائح واسعة منه.
3. أن الصهيونية استغلت اليهود في تأجيج العداء للإسلام من ناحية، وفي المبالغة في موضوع المحرقة (الهولوكوست Holocaust) من ناحية أخرى، وكان لخطابات أحمدي نجاد في هذا المجال الدور المهم في تأكيد هذا البعد في الصورة الذهنية الإيرانية لـ"إسرائيل".
4. المنظور الاستراتيجي باعتبار "إسرائيل" قوة تنافس إيران على المكانة الإقليمية، وهو ما يبدو من تحليل دلالات التصريحات الرسمية الإيرانية.
5. أن الصورة الذهنية لدى إيران عن "إسرائيل" أسهمت في تعميق الصورة السلبية لـ"إسرائيل" في بعض المناطق العربية سنية أو شيعية.[11]
وتعززت هذه الصورة من خلال سياسات الدولة الإيرانية من ناحية، وبعض النشاطات الفكرية والأدبية ذات المدلول الرمزي من ناحية أخرى، مثل تغيير اسم شارع في طهران في سنة 2004 من شارع خالد الإسلامبولي (قائد مجموعة اغتيال الرئيس المصري الأسبق أنور السادات) وتحويله إلى شارع الانتفاضة الفلسطينية.
6. دور "إسرائيل" في تأييد فكرة الاحتواء المزدوج خلال الحرب العراقية الإيرانية بين 1988-1980، بهدف استمرار القتال وإنهاك الطرفين وهو ما ردده مناحيم بيغن Menachem Begin، كما أن العلاقات الحميمية بين الشاه و"إسرائيل" تركت صورة سلبية عن "إسرائيل" في الشارع الوطني والديني الإيراني.[12]
7. لعب الإعلام الإيراني دوراً في تعميق فكرة محددة، وهي أن العدو المركزي لإيران هي الولايات المتحدة، وأن "إسرائيل" هي أحد أهم أدوات الولايات المتحدة في منع تطور إيران، وهو ما يتضح في الملامح التالية:[13]
أ. الإرث التاريخي المعاصر حيث تدخلت الولايات المتحدة في سنة 1953 وأجهضت محاولة بناء نظام ديموقراطي في فترة محمد مصدق، وحيث إن الولايات المتحدة و"إسرائيل" متطابقتا التوجهات السياسية، أصبح الموقف من "إسرائيل" انعكاساً للموقف من أمريكا، كما أن خصوم إيران هم جميعاً حلفاء الولايات من دول غربية أو عربية.
ب. اعتبار "إسرائيل" أحد أهم عوامل زعزعة الاستقرار السياسي في إيران.
ج. اعتبار الولايات المتحدة متغيراً أساسياً في لجم القوة الإيرانية في مواجهة "إسرائيل".
د. توظيف القوى السياسية الإيرانية للعداء تجاه "إسرائيل" في تنافسها الداخلي.
هـ. المراهنة الإسرائيلية على "الحركة الخضراء" الإيرانية لتغيير التوجه السياسي للدولة الإيرانية ترك انطباعاً سلبياً لصورة "إسرائيل".
رابعاً: الصورة الإيرانية في الذهن الإسرائيلي:
كيف ينظر الإسرائيليون لإيران المعاصرة؟ للتعرف على صورة إيران في الذهن المجتمعي الإسرائيلي، نستعرض بداية نتائج استطلاعات الرأي الإسرائيلي خلال السنوات الأربع السابقة حول هذا الموضوع، إلى جانب الصورة التاريخية للعلاقات بين الطرفين والتي أشرت لها فيما سبق، إلى جانب تأثير اليهود الإيرانيين في "إسرائيل" على هذه الصورة، ويبلغ عدد اليهود من أصول إيرانية في "إسرائيل" قرابة 135 ألف نسمة، وبدأت "إسرائيل" بتقديم إغراءات للمتبقين في إيران للهجرة لفلسطين المحتلة ويبلغ عددهم نحو 25 ألف نسمة لكن أغلبهم لم يستجب لهذه الإغراءات.[14]
وتتمثل أبعاد الصورة الذهنية الإسرائيلية لإيران في الملامح التالية:
1. اعتبار إيران مصدر خطر على "إسرائيل":[15]
جدول رقم 1: نسبة الإسرائيليين الذين يرون إيران خطراً وجودياً على "إسرائيل"
خطر عالي جداً: 30%
خطر عالي: 31%
خطر معتدل: 24%
خطر ضعيف: 6%
ليست خطراً على الاطلاق: 2%
لا يعرف: 8%
تكشف نتائج الاستطلاعات الواردة في جدول رقم 1، أن 61% من الإسرائيليين يصنفون إيران في خانة الخطر العالي جداً والعالي، بينما لم يتجاوز الإسرائيليون الذين نظروا لها على أنها لا تشكل خطراً أو أنها خطر ضعيف ما مجموعه 8%.
2. تأييد مهاجمة المنشآت الإيرانية دون موافقة الولايات المتحدة:
ويكاد متغير السعي الإيراني لبرنامج نووي متطور يمثل المصدر الأكثر تأثيراً في النزوع الإسرائيلي لمواجهة إيران، ويتضح أن نسبة الإسرائيليين الذين يساندون فكرة مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية "بدون" موافقة الولايات المتحدة أعلى بكثير من المعترضين على هذه الخطوة، ويلاحظ أن نسبة المؤيدين بقوة للمهاجمة يعادل خمسة أضعاف نسبة الرافضين للخطوة كما يتضح من جدول رقم 2.
جدول رقم 2: مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية "بدون" موافقة الولايات المتحدة
قوي: 31%
معتدل: 27%
غير موافق إلى حد ما: 19%
غير موافق بشكل تام: 6%
لا يعرف: 17%
3. صورة إيران في ذهن طلاب المدارس الإسرائيليين (وهم قادة المستقبل):
جدول رقم 3: صورة إيران في ذهن طلاب المدارس اليهود في "إسرائيل"[16]
المعرفة عن إيران: 2.4/5
إيران خطر عالمي: 3.71/5
إيران خطر على "إسرائيل": 4.03/5
العلاقة مع إيران مستقبلاً ستكون إيجابية: 2.8/5
إيران دولة مستقرة: 2.46/5
وتبدو صورة إيران في ذهن اليهودي الإسرائيلي بأنها انعكاس لخبرتين تاريخيتين، الأولى أن إيران—في الذهن الإسرائيلي—تكرار لنموذج هتلر Hitler ومعاداة السامية، والثانية أن الخوف منها ناتج عن "رعايتها الإرهاب والعمل على تطوير برنامجها النووي"، وتبدو من إجابات المجموعات اليهودية أن السفارديم Sephardim أكثر نزعة عدوانية تجاه إيران ويرون الحل بتدميرها، بينما الأشكناز Ashkenazim يرون أن حلّ المشاكل مع إيران يحتاج لتدبر وتفكير. ويدل جدول رقم 3، أن الطلاب الإسرائيليين، وهم قادة المستقبل، يختزنون صورة عدائية حادة لإيران تصل إلى مستوى يفوق 80% من زاوية الخطر الإيراني عليهم، لكن هذه الصورة تنطوي على بعد آخر يتمثل في أن الطلاب الإسرائيليين يعتقدون بأن العلاقات الإيرانية الإسرائيلية ستكون إيجابية مستقبلاً بمعدل يفوق 50%.
غير أن الصورة الإيرانية لدى الإسرائيليين تشتمل على بعد مهم آخر وهو المنافسة العلمية، فصورة التقدم العلمي من خلال بعض المؤشرات مثل تفوق الإيرانيين في الامتحانات الدولية في مواد مثل الرياضيات أو في عدد المنشورات العلمية التي تسجل نمواً واضحاً في مستويات الاقتباس Citation index في الكيمياء، والهندسة، والبيولوجيا، والكيمياء الحيوية تعزز هذا القلق من التطور العلمي الإيراني خصوصاً أن الإيرانيين يحتلون المراتب الأولى إقليمياً في هذه العلوم، متقدمين على "إسرائيل" وعلى العالم العربي.[17] وهو ما يعني أن الصورة الذهنية الإسرائيلية تنطوي على ثنائية الكراهية والإحساس بالخطر من ناحية والإعجاب من ناحية أخرى، وهو أمر يكرس الإحساس بالخطر الإيراني في بنية الصورة الذهنية الإسرائيلية.
من جانب آخر، يحاول العقل الإسرائيلي التأكيد على صورة محددة وهي "الاستعلاء الفارسي" على الحضارة العربية، والتركيز على بعض المقارنات الواردة في الأدبيات الفكرية الإيرانية الخاصة بمقارنة التشيّع والتسنن، حيث يتم ربط ثقافة التشيع والثقافة الفارسية بالمدينة من ناحية وبدور المفكرين الفرس في الحضارة الإسلامية من ناحية ثانية، وأخيراً تكريس فكرة الانتماء الإيراني للعرق الآري، مقابل الثقافة العربية "البدوية" الممتزجة بالأسطورة وحرفية "النص البداوي" طبقاً للمنظور الإسرائيلي، وهو أمر يستندون فيه على بعض كتابات علي شريعتي Ali Shariati بصفته أحد أبرز مفكري الثورة الإيرانية إلى جانب غيره من المفكرين. [18]
خامساً: صورة إيران في بحوث مراكز الدراسات الإسرائيلية:[19]
قمنا باختيار ستة مراكز دراسات إسرائيلية هي الأكثر عناية بالموضوعات المتعلقة بعلاقات "إسرائيل" الدولية، وهذه المراكز هي:
1. مركز بيغن – السادات للدراسات الاستراتيجية Begin-Sadat Center for Strategic Studies.
2. معهد دراسات الأمن القومي Institute for National Security Studies.
3. "مجلس إسرائيل للعلاقات الخارجية Israel Council on Foreign Relations".
4. مركز القدس للشؤون العامة Jerusalem Center for Public Affairs.
5. ميتفيم – المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية Mitvim – The Israeli Institute for Regional Foreign Policies.
6. مركز موشي ديان للدراسات الشرق أوسطية والإفريقية Moshe Dayan Center for Middle Eastern and African Studies.
ومن خلال الاطلاع على مضامين دراسات هذه المراكز، تبين لنا النتائج التالية الخاصة بالموضوع الإيراني:
جدول رقم 4: موضوعات البحث حول إيران في مراكز الأبحاث الإسرائيلية
(يمكن الاطلاع على الجدول على موقعنا)
وتشير أدبيات المراكز البحثية الإسرائيلية الخاصة بإيران إلى ما يلي:
1. بلغ مجموع الدراسات الصادرة عن إيران في هذه المراكز الإسرائيلية الستة ما مجموعه 196 دراسة (مع تباين في تاريخ تأسيس هذه المراكز).
2. تصدر معهد دراسات الأمن القومي المركز الأول في عدد الدراسات عن إيران، وبلغ عدد دراساته 96 دراسة، أي نحو 49% من مجموع الدراسات.
3. كانت موضوعات العلاقات الإيرانية العربية والدولية هي الأعلى بين اهتمامات مراكز الدراسات الإسرائيلية (56 دراسة)، وجاء في المرتبة الثانية موضوع أوضاع إيران الداخلية (42)، يليه موضوع البرنامج النووي الإيراني (33).
4. يلاحظ أن كلاً من معهد دراسات الأمن القومي ومجلس الشؤون الخارجية هما الأكثر تركيزاً على العلاقات الصينية الإسرائيلية.
5. أن السمة المركزية لمضمون الأدبيات الإسرائيلية في هذه المراكز هو "إدارة الصراع مع إيران" وغياب بشكل كبير لموضوعات التعاون أو الصورة الإيجابية.
سادساً: نماذج من دراسات مراكز الأبحاث الإسرائيلية حول إيران:
1. احتمالات الحرب الإيرانية الإسرائيلية في دراسة معهد الأمن القومي:
كان لاغتيال القائد الإيراني قاسم سليماني Qasem Soleimani سنة 2020 تأثيره الكبير على تصاعد التوتر الإيراني الإسرائيلي، على الرغم من أن الاغتيال تمّ من قبل الولايات المتحدة التي أعلن رئيسها ذلك بشكل رسمي،[20] وحددت دراسة لمعهد الأمن القومي الإسرائيلي مصادر الخطر في ثلاث جبهات هي: شمال فلسطين المحتلة (حزب الله)، والمقاومة في غزة، وإيران ذاتها. وتبرر دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي أن الخطر الإيراني يتجسد في:[21]
أ. برنامجها التكنولوجي العسكري ممثلاً في البرنامج النووي وفي برنامجها الصاروخي.
ب. التنظيمات المسلحة المرتبطة بإيران مثل حزب الله، والمقاومة الفلسطينية في غزة، وأنصار الله في اليمن، وأغلب التنظيمات الشيعية المسلحة في العراق، لكن برنامج الصواريخ الدقيقة الذي يعمل عليه حزب الله هو الخطر الثاني الأكبر بعد البرنامج النووي الإيراني.
ج. التواجد العسكري الإيراني المجاور جغرافيا لـ"إسرائيل" خصوصاً في سورية.
د. القلق من أن تراجع المكانة الاستراتيجية للشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية قد يُغري محور المقاومة لاستغلال ذلك بشكل يدفع لمزيد من المواجهة مع "إسرائيل" بتعاون بين كل القوى المشكلة لمحور المقاومة.
ولمواجهة هذه المخاطر يقترح معهد الأمن القومي الإسرائيلي العمل على:[22]
أ. توسيع دائرة التطبيع العربي – الإسرائيلي مترافقاً مع توسيع دائرة التوتر في العلاقات العربية الإيرانية كما اتضح من مؤتمر النقب في آذار/ مارس 2022، وفي أعقاب مؤتمر قمة حضره الرئيس المصري، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، وولي العهد الإمارتي (رئيس الدولة حالياً). لكن بعض المؤشرات تبدو مقلقة من هذه الناحية لـ"إسرائيل"، مثل تزايد احتمال عقد اتفاق جديد بين الولايات المتحدة وإيران بخصوص البرنامج النووي الإيراني، وضعف الردود السعودية والإماراتية على ضربات أنصار الله لمواقع حساسة، وتلكؤ الدول الخليجية في إبداء توافق مع المطلب الغربي لزيادة الإنتاج من الطاقة لتخفيف الأزمة الطاقوية الناتجة عن الأزمة الأوكرانية، ناهيك عن غياب الطرف الفلسطيني والأردني عن مناقشات العلاقات العربية الإسرائيلية في مؤتمرات النقب في 2022.
ب. التوصية بضرورة وضع خيار عسكري مشترك مع أمريكا لمواجهة البرنامج النووي الإيراني.
هناك ارتباك واضح في التقييمات الإسرائيلية لقضية الاتفاق على البرنامج النووي الإيراني بين إيران والولايات المتحدة،[23] فهناك من يرى أن الاتفاق أفضل من عدمه (رئيس الاستخبارات العسكرية الأسبق عاموس يدلين Amos Yadlin، وأهارون فاركاش Aharon Zeevi Farkash من الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أيضاً، ووزير الدفاع الأسبق موشيه يعلون Moshe Ya’alon، ورئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت Gadi Eisenkot، ورئيس الموساد Mossad السابق تامير باردو Tamir Pardo)، وهناك من يرى أن عدم التوصل لاتفاق هو الأفضل (مثل رئيس الوزراء السابق نتنياهو Netanyahu، والحالي بينيت Bennett).
2. دراسات مركز موشي ديان للدراسات الشرق أوسطية والإفريقية:
يركز هذا المركز في دراساته لإيران على ثلاثة مواضيع: وسائل التواصل الاجتماعي حول إيران وداخلها، والتنافس الروسي الإيراني التركي في سورية وموقف هذه الدول من السعودية، ومتابعة عمل المؤسسات السياسية الإيرانية وشخصياتها ومؤسسات المعارضة. ويغلب على الكتابات الطابع العدائي والتشكيك في العلاقة بين المجتمع الإيراني والسلطة.[24] وتتناغم دراسات هذا المركز مع دراسات مركز حاييم هيرتزوج لدراسات الشرق الأوسط والديبلوماسية The Chaim Herzog Center for Middle East Studies and Diplomacy الذي يركز على دراسة البنية الثقافية الإيرانية.[25]
3. دراسات مركز بيغن السادات للدراسات الاستراتيجية:
يغلب على دراساته الطابع "الدعائي"، والخطابة، والإنشائية؛[26] قياساً مثلاً بالنظرة الأكثر أكاديمية لدراسات ميتفيم – المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية، والتي كثيراً ما ورد فيها دراسات تنتقد التوجهات الإسرائيلية خصوصاً في التعاطي مع العلاقة مع إيران.[27]
ويقدم مركز بيغن السادات معلومات عامة عن إيرانيي "إسرائيل"، وتشير أحد دراساته بالمقابل عن وضع اليهود في إيران إلى أن عدد سكان اليهود في إيران 2021 هو بين 8,500–20,000 نسمة، أما وضعهم السياسي والاجتماعي فهو على النحو التالي طبقاً لدراسات مركز بيغن السادات الإسرائيلي:[28]
أ. يعدّ الدين اليهودي أحد الأديان المعترف بها في إيران إلى جانب الإسلام، والمسيحية، والزرادشتية.
ب. لكل من الأديان اليهودية والمسيحية والزرادشتية ممثل واحد في السلطة التشريعية.
ج. يسمح لمعتنقي الدين اليهودي (وغيره) ممارسة شعائرهم الدينية في حدود القانون.
د. وفقاً لما تقوله اللجنة اليهودية في طهران، فقد تابعت خمس مدارس يهودية وروضة أطفال عملها في طهران، لكن السلطات طلبت من مديريها أن يكونوا مسلمين. وبحسب ما ورد، واصلت الحكومة السماح بتدريس اللغة العبرية لكنها حدت من توزيع النصوص العبرية، ولا سيّما النصوص غير الدينية، مما جعل من الصعب تعليم اللغة، وفقاً للمجتمع اليهودي. وبحسب ما ورد، طلبت الحكومة الإيرانية من المدارس اليهودية أن تظل مفتوحة أيام السبت، وتعتبر الدراسة الإسرائيلية ذلك انتهاكاً للقانون الديني اليهودي بذريعة التوافق مع جدول بقية المدارس الإيرانية الأخرى.
هـ. وفقاً للجنة اليهودية في طهران، فقد كان هناك 31 كنيساً يهودياً في طهران، أكثر من 20 منها نشط، و100 كنيس يهودي في جميع أنحاء البلاد. وقال ممثلو الجالية اليهودية إنهم يتمتعون بحرية السفر داخل وخارج البلاد، ولم تفرض الحكومة بشكل عام حظراً على سفر اليهود إلى "إسرائيل"، على الرغم من أنها فرضت حظراً على سفر مواطنين آخرين إلى "إسرائيل".
و. لكن المنظور الديني الشيعي لليهودية يبدو—من وجهة النظر الإسرائيلية الأكاديمية—أكثر عداء لها من المنظور السني.
*
وتكشف دراسة أكاديمية بريطانية لروسي جاسبل Rusi Jaspal[29] أن هناك نوعاً من الاستعصاء للإيرانيين اليهود في فلسطين في القدرة على التماهي مع الهوية الإسرائيلية على حساب هويتهم الإيرانية الأصلية، وتشير الدراسة القائمة على بحث ميداني أن هذه الظاهرة واضحة بين اليهود الإيرانيين في "إسرائيل" والذين يشكلون ما بين 3–4% من سكان "إسرائيل".
الخلاصة:
يمكن تحديد مؤشرات الصور الذهنية لطرفي العلاقة في الآتي:
1. لو حسبنا الفترات التاريخية التي تغلب فيها التضاد بين اليهود والإيرانيين سنجد أنها أوسع في الامتداد الزمني من فترات التناغم بين الطرفين.
2. من جانب آخر، شكل البعد الديني الإسلامي في الثقافة الإيرانية أحد الأعمدة الرئيسية لهذا التضاد، كما عزز المذهب الشيعي هذا التضاد في الصورة الذهنية حول اليهود.
3. تشكل العلاقة الإسرائيلية الأمريكية أحد أركان تكوين الصورة الإيرانية.
4. شكلت الثورة الإيرانية في الصورة الإسرائيلية لإيران نقلة في تعميق التضاد بين الطرفين، وأسهمت أدبيات المذهب الشيعي المعاصر في تكريسها.
5. إن التقدم العلمي في إيران قياساً للإقليم، بما فيه "إسرائيل"، نقطة قلق قوية للنخب الإسرائيلية، وهو ما انعكس في النسبة العالية لاعتبار إيران الخطر الأول على "إسرائيل" لدى النخبة، والسلطة، والمجتمع الاسرائيلي.