أخبار البلد ـ لا تصف المؤلفة نفسها بالمؤرخة، وإنما كمحللة للخطاب الوارد في كتب التاريخ، والجغرافيا، والتربية المدنية المقررة، فنظرياتها تدرس هذا الخطاب وبخاصة دلالاته وعلاماته ورموزه… المستخدمة في هذه الكتب.
وحسب بعض المحللين، لا يقصد بالروايات التي تدعيها الدولة في هذه الكتب أن تكون منطقية أو صحيحة، أو لتشجيع الطلبة على البحث والاستقصاء التاريخي، وإنما الهدف تكوين هوية جماعية (وإن بالتلفيق)؛ فمؤلفو هذه الكتب وإن كانوا مؤرخين يخطئون علمياً (بقصد) لتعزيز الذاكرة التي يُكّوِنون، ولتشكيل أقوى للهوية المشتركة والانتماء، لأن للذاكرة قيمة أكبر، وقوة أعظم في عقل الشعب وأكبر وأقوى من التاريخ.
وإحدى القنوات الرئيسة لتوكيد الروايات القومية هي التعليم الرسمي. إن المهمة الرئيسة للكتب المدرسية بناء رواية قومية مستمرة، أو ذاكرات جماعية لجميع المواطنين (اليهود)؛ أي للجماعة المهيمنة. وهو ينطبق على إسرائيل تماماً لأن الطلبة اليهود هم الذين يشكلون الأكثرية والطلبة الفلسطينيون في إسرائيل يشكلون الأقلية، يعلمون الرواية الصهيونية ولا يتعلمون الرواية الفلسطينية. أي أن الطرفين يُعلّمان ويتعلمان الرواية الصهيونية فقط.
وظيفة الهوية التي تعمل الكتب المدرسية عليها منع النسيان، وتثبيت حالة معينة من الذاكرة، وتخليد الموت، وتحسين الخلود، وجمع أكبر معنى ممكن بأقل العلامات، أو الإشارات. هناك فرق كبير بين التاريخ والذاكرة الجمعية، فلأن التاريخ خرافي فإنه يبقى مشكوكاً فيه في الذاكرة المبنية. وبعكس الذاكرة يقبل التاريخ الاختلاف والنقد والجدل كجزء من التفسير المستمر له، ما يجعل التاريخ العدو الرئيس للذاكرة الجمعية وعدوها الحقيقي. إنه يدمرها. أما الذاكرة الجمعية فديكتاتورية. إنها تأمر وتسترجع من الماضي ما هو حي أو باقٍ حياً وقابل للعيش في وعي الجماعة الذي يجعل الذاكرة حية. يبدأ التاريخ عندما تنتهي الذاكرة «وتتفكك أو تنقرض».
الفرق الرئيس بين الذاكرة والتاريخ، أن التاريخ يفحص كل وجهات النظر، ويحاول إيجاد معنى لها. بينما الذاكرة إطارية أو سياقية تعتمد على جماعة خاصة في مكان خاص. ولهذا لا يشكل التاريخ ذاكرة جمعية، ففي قلب التاريخ خطاب ناقد مضاد للذاكرة. وهدفها الرئيس، وبخاصة فيما يتعلق بالذاكرة الجمعية ليس فهم الماضي، وإنما صياغته على نحو ما للاستخدام (Usable) لغرض ما، كتبرير طريقتنا (روايتنا)، ونزع الشرعية عن طريقتهم (روايتهم). إن الهدف الرئيس للذاكرة تمييز الجماعة عن غيرها، سواء أكانت جماعة خارجية أو عدوة.
كل الجماعات تعيش مع معتقدات ومدونات أو «شيفرات» ومعايير وإعداد للتلاؤم مع حاجاتها المتبناة. وتشكل هذه المعتقدات والمدونات… الحدود التي تتكون منها الذاكرة الجمعية والرواية القومية. وإحدى هذه المواد هي العداء للجماعات الخارجية الذي يساعد على تقوية الإحساس بالانتماء. وبالنسبة إلى إسرائيل، فإن الإسرائيليين غير قادرين وغير راغبين في النظر في علاقاتهم الماضية مع الفلسطينيين نقدياً، لأنهم لو فعلوا لشكّل ذلك عندهم مشكلة سياسية عصبية، لأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني غير قابل للتطويع.
تمس المعتقدات الاجتماعية الخاصة بالذاكرة الجمعية أربعة مواضيع:
- تبرير اندلاع الصراع وتطوراته.
- صنع صورة إيجابية للجماعة.
- نزع الشرعية عن الخصم.
-
عرض مجتمعها كضحية له.لقد تكونت وجهة النظر هذه عبر فترة طويلة من العنف نتيجة معاناة المجتمع وخساراته، وحتى أنه نظر إليها في بعض الأحيان كالجرح المختار (Chosen Trauma).تبين للذين درسوا الكتب المدرسية الإسرائيلية بين 1950-2000 أنها لا تعلم التاريخ الصحيح، وإنما الذاكرة الهادفة إلى تعليم وتوكيد المعرفة الموافق عليها إسرائيلياً للجيل الجديد. وإن لهذه الكتب دوراً مزدوجاً: تزويد الطلبة بحاسة الاستمرار بين الماضي والحاضر، ونقل القصص التاريخية عن الآخر الفلسطيني بالتلاعب فيها، أي بإعادة كتابة أو فبركة الماضي من أجل التلاؤم مع الحاجات الراهنة. هدف الكتب المدرسية الإسرائيلية أن تغرس في الطلبة الذاكرة الجمعية التي اختلقتها الصهيونية لتشكيل ذاكرة يهودية جديدة كلياً.تنشر/ تذيع / تعلن كتب التاريخ والجغرافيا والتربية المدنية والآداب والعلوم والقواعد الإسرائيلية على نحو أو آخر، الرواية الصهيونية العظمى المقسمة إلى جزأين: رواية الانحدار من العصر «الذهبي» القديم ابتداء من النفي وانتهاء بالهلوكوست، ورواية التقدم التي بدأت بعودة الصهيونية إلى أرض إسرائيل كفعل مؤدٍ إلى الخلاص القومي، أو إلى الاسترداد.تضم هذه الرواية إنكار 2002 سنة من النفي (بمعنى أن اليهود لم يغادروا فلسطين على الرغم من النفي) وإنكار أي حياة ذات معنى في فلسطين في أثناء ذلك (أي أنهم ينكرون تاريخ غيرهم فيها طيلة هذه المدة) تحكي الرواية الصهيونية المزروعة في الكتب المدرسية الإسرائيلية كفاحاً مستمراً لليهود ضد غير اليهود (الأغيار/ الغويم) المغتصبين للأرض. ومن ثم فإنهم ينظرون إلى حرب 1948 كنهاية للتاريخ القديم، ومحاربي سنة 1948 كنسل مباشر للمكابيين. في هذه الرواية الصهيونية الكبيرة من العودة والخلاص كان البطل هو اليهودي الجديد الذي عاد لاستعادة أرض الآباء. في الخامس عشر من شباط كل عام (يوم الشجرة) يذهب طلبة المدارس لزرع الأشجار في الغابات التي زرعها الصندوق القومي اليهودي؛ حيث يقال لهم: إنكم تسترجعون الغابات التوراتية العظيمة التي دمرها العرب بقطعانهم حين كنا بعيدين عنها.