كأن شيئاً لم يحدث منذ كانون الأول (ديسمبر) الماضي على امتداد الأرض العربية، أو لعله كابوس "لكنه هذه المرة أطول وأغبى".
هو بالفعل هذه المرة كابوس ثقيلُ الظل ليس ككل تلك الكوابيس التي أرقت مضجعَ الزعيم وبطانته عقب مأدبة عشاء رسمية زاخرة بالدسم. ماذا لو لم يأت كانون الأول (ديسمبر) وما تلاه، ألم يكن بمقدورنا نحنُ من وهَبَنا الله كل هذه المواهب، وألهمنا القدرة والقوة لتغيير كلّ ما لا عين ترى ولا أُذن تسمع وما لم يخطر على بال بشر.. التزوير وقلب الحقائق، وتمييع المواقف وتسويف الوعود والالتزامات، و"لخبطة" الألوان والأوراق؟ ألم يكن بمقدورنا أن نعتقلَ كانون الأول (ديسمبر) وما بعده فلا نرى ما أعمى بصائرَنا اليوم؟
كان بمقدورنا، مثل العقيد، تغيير اسم البلدان التي لم تعرف أبداً من قبل اسماً آخر، وصبغ الراية وغسل الولاءات وإلغاء الشهور والأيام، وتأليف الدستور ونشره على أجزاء خضراء. بل لعلنا كنا أقدر منه، لكنها رائحة الظلم التي لم تكن قد وصلت أُنوفنا قبل كانون الأول (ديسمبر)، ولعلنا فقدنا حاسة الشم أيضاً بعد أن فقدنا الذوق وحاسته.
حتى هذه اللحظة التي أتخيل بها معكم لحظة شرود تعصفُ حتماً في رؤوس قادة أنظمة عربية آيلةٍ للسقوط وأُخرى فعلت، وبطاناتها وإعلامها الرسمي وكتّاب بياناتها ورموز الجوقة (إياها)، ما أزال لا أُصدق أن الإعلام العربي الرسمي، مدفوعاً بآليات حكم جاهلة وأدوات ورؤىً قاصرة وإمعان في فكر متحجر، ما يزال هو هو كما كان في قرطاج وماسبيرو والعزيزية، وهو أيضاً في بؤرٍ أُخرى كثيرة، تضيع فيها الأوطان وتُسْحَلُ الشعوب أو تكاد، والروايةُ ذاتها والجهل أكثر استفحالاً.
"المعلم" مثلاً سقط في مادتين رئيسيتين: الجغرافيا، حين محا القارة الأوروبية عن الخريطة أو أعلن أنه لم يعد يراها؛ ثم في التاريخ عندما تناسى في موقعة إعلامية أخرى أن الشعوب أبقى من حكامها، وأن الدم عبر التاريخ لا يأتي إلا بدم.. غادر المؤتمر الصحافي، آخر امتحاناته التي رسب فيها، فردّت حماة بالإجابة!!
أليس هو "المعلم" نفسه الذي كان يُمضي مؤتمراته الصحافية ضاحكاً مبتسماً، موجهاً أسئلته للصحافيين، مُنفّساً عنهم بطرفة أو نكتة مشتركة مع عمرو موسى؟ حدث ذلك عندما كان الحديث في الشأن العربي الإسرائيلي وفلسطين والصهيونية والصمود والممانعة، فماذا حصل عندما صار الأمر متصلاً بحياة السوريين وكراماتهم؟
ألم يأتكم حديث وزير الإعلام المصري السابق، الذي كان يتابع عبر نافذة مكتبه على كورنيش النيل المظاهرات المليونية فَيُملي على مدير أخباره أنْ أُكتب.. "هدوءٌ يسود القاهرة بعد تعامل الداخلية مع المُندسين"؟!
أتعجب أن الرسالة وصلت إلى أقاصي الدنيا ولم تصلنا بعد! فالحراك العربي أحدث توازناً في تعامل الصحافة الغربية مع كافة القضايا العربية، وسط ذهولِ إعلاميين عرب يعملون في وسائل إعلامية غربية، كانوا يتخوفون من مواقف مغايرة، لكن إعلام الغرب المتأثر دوماً بمواطنيه وجماهيره كان أقدر من كل إعلامنا على التقاط الحدث بكل مفرداته، فتغيرت ثوابت النظرة إلى العرب وحدثت النقلة التي لم تتحقق منذ ستين عاماً في التعامل مع الشأن العربي.
ما يزال وزراء إعلام عرب ومساعدون لهم وناطقون ومذيعون رسميون مثل محطات التلفزة العربية الرسمية، في موت سريري، لكنهم مع ذلك ومن باب "حلاوة الروح" يُصِرونَ على أن شاشاتهم الأكثر شفافية وموضوعية ومصداقية وحيادية، فيما الطرف الآخر هو شرير الشاشة ومُزَورُ الحقائق والصور والتواريخ.
بائسٌ ومخزٍ أداء الفضائيات العربية الرسمية والمقربة منها خلال شهور الحراك؛ تلوينٌ وتعتيمٌ بغير موهبة، وجعجعةٌ من دون عِلم، وفضائحُ على العلن، وأصنامُ الإعلام العربي ما يزالون مُتَخَشِبينَ في معسكر النفي الدائم الذي لا يخترقه إلا كذبةٌ أخرى. ألا تحمل نسمات الربيع العربي بعضاً من بذورها لهذه العقليات الإعلامية الرسمية المُتَسَمِرة مكانها من دون إبداعٍ وبلا موهبة، خالية من المعلومة الحقيقية أو حتى من الإحساس؟
الصحيح أن أُولئك المخططين القابعين تحت وطأة ذلك الكابوس الذين حلموا بتغيير كل شيء حتى إسقاط الشهور وإلغاء الجُمع والأيام العاصفة، ما تزال حواسهم تتهاوى هي الأخرى، ورُغم ذلك نراهم كل يوم على الشاشات وفي المؤتمرات الصحافية متألقين بجهلهم وكِبرهم وعيونهم المتورمة جراء ذلك الكابوس.
العرب.. ربيع الإعلام وخريف الأصنام
أخبار البلد -