عندما بدأت الدائرة الثقاقية بالجامعة الأردنية تعقد ندوة "كتاب وقارئ"، و"كتاب ومؤلف"، بالتعاون مع مكتبة الجامعة الأردنية، كان مقدرا أنها مغامرة رمزية تجعل من مكتبة الجامعة واسمها مصدرا لمحاولة يائسة ونبيلة للتواصل بين المجتمع والمؤسسات الثقافية، بين الناس والكتاب. والفكرة ليست نادرة بالطبع، ولكن الجديد (ربما) أن الحضور شكلوا بأنفسهم منتدى يتشاورون على الكتب التي يطرحونها للنقاش أو يستضيفون مؤلفيها، ويقرؤون ويحضّرون بأنفسهم من دون وجود ضيف أو مداخل رئيسي. ولكن المفاجأة كانت أن التجربة جاءت بنتائج أخرى، ومشحونة بالرموز والذكريات التي لم تكن متوقعة، وبدت بعد لقاءات قليلة وكأنها أكثر أهمية من مناقشة الكتب وعرضها.. ذكريات الجامعة ومكتبتها، الصداقات والمعارف القديمة التي كادت تختفي في زحمة العمل والهجرة.. العودة المهيبة إلى الجامعة والمكتبة!
..هل سيسمح لنا بالدخول إلى الجامعة؟ وإذا دخلنا الجامعة هل سيسمح لنا بدخول المكتبة؟ الأسوار والبوابات الإلكترونية ورجال الأمن الجامعي جعلت الجامعة في نظر المجتمع والخريجين مثل قلعة مغلقة غامضة. ولكن المفاجأة للزوار والقادمين كانت العكس تماما، فرجال الأمن يرحبون بالقادمين بحفاوة، وكانوا يعرفون عن الندوة ومكانها. وموظفو المكتبة كانوا على معرفة مسبقة، ويستقبلون القادمين بحفاوة أيضا ويرشدونهم إلى القاعة. والعلاقات العامة وإدارة المطاعم يستقبلون المشاركين ويقدمون الضيافة، وبتقاليد متقدمة في مستواها وأسلوبها.
بعد لقاءين أو ثلاثة، تحول المشاركون إلى أصدقاء يعرفون بعضهم جيدا، ويتحاورون بمستوى مدهش من تبادل المعرفة وعمقها، برغم الاختلاف الكبير جدا في كثير من الأحيان في الآراء والمواقف؛ المحافظون الذين يدافعون عن السنة ويتمسكون بحجيتها ومعايير التصحيح والجرح والتعديل كما وضعت منذ قرون عدة، والعقلانيون الذين يدعون إلى الاكتفاء بالقرآن وإخضاع الأحاديث إلى معايير جديدة في النقد والمحاكمة إلى القرآن والعقل؛ المتفائلون بالإصلاح ودور الطبقة الوسطى القادم والذين يرون في الأفق مؤامرة أميركية وغربية لإعادة الهيمنة على المجتمعات والدول العربية، المراهنون على دور الحكومة والدولة في الاقتصاد والإصلاح والتنمية، والذين يرون الفساد والإصلاح في الأفراد والمجتمعات، والثقافة السائدة والمنظمة للأعمال والموارد، المؤيدون للقطاع الخاص ودوره وأهميته والذين يرون رجال الأعمال مصدر البلاء والفقر.. وتراجع معدلات الأمطار!!
ويمضي الوقت، ويبدأ موظفو العلاقات العامة والضيافة بالتململ ويخففون من الابتسامة والحفاوة، ثم يهمسون بمزح متبرم "هم بدهم يباتوا هون؟". وتنتهي الجلسة بقرار قمعي، فيواصلون النقاش أمام المكتبة، فتبدو أرصفة الجامعة وممراتها في الأماسي الصيفية أجمل من القاعات والمكاتب.
الكتاب كائن حي وليس فقط موضوعا للنقاش والحوار والاطلاع، ولكنه يشارك المنتدين ويستمع إليهم ويرد عليهم.. ويمنح كل واحد شيئا مختلفا عما يمنحه للآخرين، فليست المعرفة التي يبثها هي المعرفة التي ينتجها القارئ/ المستمع.. ومثل باب الله مفتوح دائما للجميع، الصغار والكبار، والأغنياء والفقراء، والمخطئين والمصيبين.