رواية مهمة بلغة انسيابية هادئة، تجلّت في أحداثها التي تدور في الفترة ما قبل الهزيمة "النكسة" عام 1967، وما بعدها، وكيف ألقت الهزيمة بانعكاسها المباشر على المجتمع المصري، والتداعيات التي رافقتها على مستوى الفرد والجماعة، والتحولات الاجتماعية والاقتصادية، وهذه الرواية من النوع الناقد الهادئ واللاذع في الوقت نفسه، لكل الآفات التي رافقت الهزيمة، وكل الاضطهاد الذي عاشه البسطاء العاديون الذين يحبون البلاد، على عكس الصفوة التي حولت النكسة إلى مكاسب مادية فردية تنامت بشكل لافت، فأخذت تقتسم خيرات البلاد، وتقيم مشاريعها الخاصة وتبني إمبراطوريات من النفوذ والمال، وتتحكم بالاقتصاد وقوت البسطاء.
حاكت الرواية بشفافية واضحة فترة وصول الراحل جمال عبد الناصر الذي سطع نجمه في كل أوساط المجتمع المصري، بل وتعدى ذلك إلى الأقطار العربية الأخرى، واستطاع الكاتب بمهارة ربط الأحداث مع بعضها من دون أي خروج أو نشاز يلحظه القارئ، بل صاغها بحبكة غاية في الدهشة والجمال وباقناع تام، كما أن لغة الرواية كانت وفيرة المعنى، انسيابية سلسة وسهلة، ومشوقة في ذات الوقت.
ظهر جليًا من خلال الأحداث النقمة على الاستبداد، وعلى الدولة البوليسية التي ألقت بالعديد من العمال البسطاء في السجون، من خلال عائلة بطل الرواية الذي حظي فيما بعد بفرصة التعليم في كلية الطب ما كان ليحصل عليها لولا التحول الذي رافق تلك المرحلة الزمنية، والتي فتحت الباب أمام قوافل الطلاب بالالتحاق بالجامعات وفق برامج ميسرة في تغطية تكاليف التعليم، وهذا مكن بطل الرواية من الالتحاق بكلية الطب، ولولا ذلك لما تمكن كونه ينحدر من عائلة فقيرة، والده يعمل في أحد المصانع ووالدته بعد أن اعتقل والده اضطرت للعمل خادمة في البيوت.
تتطرق الرواية إلى المشكلات الاجتماعية التي عاشها المجتمع المصري في حقبة الستينيات من القرن الماضي، وانعكاسها المباشر على تكوين الفرد، كما تسلط الضوء على الحكم العسكري في تلك الحقبة وأثره على العائلات، خاصة والد البطل الذي كان عاملًا في مصنع وتعرض للاعتقال على خلفية إضراب العمال الذين كانوا يعانون من ظروف اقتصادية صعبة، فقرروا الإضراب والمطالبة ببعض الحقوق، إلا أن السجون فُتحت للبعض، فألقت بأثرها النفسي الذي ترافق مع من اعتُقل حتى بعد سنوات من الإفراج عنه.
عبد الناصر، الزعيم العربي القومي، الحاضر في الرواية حضور الأبطال. ففي كل بيت صورة له، وفي كل شارع، وفي لهفة الجماهير التي كانت تنتظر خطاباته كما تنتظر زياراته ورؤيته ولو من بعيد، إلا أنه في عين بطل الرواية أحد الرموز الذين عانى منهم والده، ليس فقط في أيام وسنوات الاعتقال، بل في سنوات لاحقة حيث عانى من أمراض نفسية وعقلية تركت أثرها الطويل الذي امتد بقية عمره.
لقد جعلني محمد قنديل أعيش فترة الستينيات كما لو أنها اليوم، وأستعيد من خلال سرد الأحداث واقعًا كان في ذلك الزمان، وتلك الحقبة المهمة من عمر الأجيال، وأخذني معه إلى مصر قبل عبد الناصر وبعده، وأيضًا قبل النكسة التي أطاحت بالأحلام العربية، وبعدها، وبنسق متتابع ظل يمسك بخيوط الرواية في كل مفاصلها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والطبقية المقيتة التي ظهرت، وانتشرت ظواهر عديدة، غريبة ومختلفة، وتنامي التيارات السياسية في الجامعة والاختلافات الحادة وأثرها على الطلبة وانعكاساتها، وما تلاها في تتابع الأيام.
محمد المنسى قنديل روائي مصري قدير، أبدع في عديد أعماله ومن بينها هذه الرواية التي جاءت في 326 صفحة من القطع المتوسطة والصادرة عن دار الشروق في طبعتها الأولى عام2013، وكانت قد صدرت الرواية في عام 1992.