«حجارة البندقية» لجون راسكين: تاريخ الشعب من خلال العمران

«حجارة البندقية» لجون راسكين: تاريخ الشعب من خلال العمران
أخبار البلد -  
 
في فيلمه «مستر تيرنر» الذي عرض قبل عامين في مهرجان «كان» السينمائي ولفت الأنظار بجماله وطرافته، جعل المخرج الإنكليزي مايك لي من جون راسكين إحدى شخصيات الفيلم وهو من خلال ذلك أطل على واحدة من الشخصيات الأكثر غنى وانفتاحاً وثقافة في زمنه، والناقد الذي ساند معركة الرسام تيرنر حتى النهاية. لكن راسكين لم يكن مجرد شخصية في فيلم ولا حتى ناقداً يعتبر كتابه «الفنانون المحدثون» ذات الأجزاء الخمسة، واحداً من أهم الكتب التي رسمت خارطة الحداثة الفنية، بل كان أيضاً مؤرخا ومنظّراً في مضمار الهندسة المعمارية، الى جانب كونه أديباً ورساماً. وفي مجال العمران والمجتمع، وضع راسكين واحداً من أكثر الكتب جمالاً وأناقة هو «حجارة البندقية» المؤلف من ثلاثة أجزاء صدرت تباعاً بين عامي1851 و1853 لتعيد النظر في كل الأفكار المسبقة والإطارات الجاهزة التي كان الباحثون في مجالي العمران والفنون الإيطالية يتحركون فيها.

 > وكما قد لا يظهر من العنوان، يصف راسكين الحيز العمراني في المدينة الإيطالية الكبيرة وفي شكل خاص من خلال ثمانين كاتدرائية يتجول فيها بقلمه ورؤيته الثاقبة، راسماً ليس فقط تاريخ تلك الكاتدرائيات، بل أيضاً وبخاصة، تاريخ المدينة نفسه من خلالها وأساليب عمرانها. ثم في شكل أخصّ، تاريخ المجتمع البندقي كما تطوّر عبر الكاتدرائيات وعلاقته بها. والحقيقة أن هذا البعد الأخير يلوح في الجزء الثاني من الكتاب المعنون «حكايات البحر» في فصل سمّاه «طبيعة الفن القوطي» وتحدث فيه في شكل مدهش عن الفوارق بين الإنسان المفكر والإنسان العامل - باعتبارهما الإثنين الذين بُنيت المدينة وصروحها على أيديهما - قائلاً: «إننا نريد من إنسان أن يكون مفكراً، ومن إنسان آخر أن يكون عاملاً. وعند ذلك نصف أحدهما بأنه رجل مهذب، والثاني بأنه رجل عملي. بيد أن العامل في الواقع ينحو دائماً الى أن يفكر، بينما ينحو المفكر الى أن يكون فعالاً... وبالتالي يجدر بالإثنين أن يكونا مهذبين بالمعنى الأفضل للكلمة. أما نحن فإننا نجعل من الإثنين غير مهذبين بالنظر الى أن أحدهما يحسد الآخر، وهذا الأخير يتجاهل الأول، فتكون النتيجة أن جمهور المدينة يتكون من مفكرين يحتضَرون وعمال بائسين. اليوم فقط من طريق العمل يمكن للفكر أن يتحقق في شكل سليم ومن طريق الفكر يمكن للعمل ان يتم في شكل سعيد. بحيث لم يعد ممكناً الفصل بين الإثنين من دون عواقب»

  ونذكر أن راسكين بعدما أصدر الجزء الأول عام 1951 بعنوان «التأسيسات» توجه الى البندقية حيث أقام عامين أنجز خلالهما الجزء الثاني ثم الثالث المعنون «الخريف». ولقد لقي الكتاب لدى اكتماله نجاحاً كبيراً. عزز من قيمة ومكانة المؤلف في طول أوروبا وعرضها.

 ولعل هذه القيمة تبرز من خلال النص التالي: «لقد قابلت خلال حياتي عدداً لا بأس به من الثوار الحقيقيين، وكنت كلما التقيت بواحد منهم أسأله: من الذي وضعك على طريق الثورة... أهو كارل ماركس؟ فيجيبني: بل هو جون راسكين...». هذا الكلام لم يقله، ذات يوم، رجل يلقي الكلام على عواهنه، بل قاله جورج برنارد شو الذي لم يكن من السهل عليه على أي حال أن يصل إلى حد مقارنة أيّ كان بكارل ماركس الذي كان بالنسبة إليه مثلاً أعلى. ومن هنا تزداد أهمية هذا الكلام ويصبح التساؤل مشروعاً عن راسكين، والأمور التي جعلته قادراً على أن ينفخ الثورة في أفئدة «ثوار حقيقيين» من طينة شو. ولعل الأمر يزداد حدة إن نحن تنبهنا إلى أن فيلسوفاً كبيراً هو هنري برغسون لم يتوان عن المزايدة على شو حين قال: «لقد ادهشني دائماً ما لدى جون راسكين من ثراء في كتاباته، ومن عبقرية».

ومع هذا علينا ألا ننسى هنا أن راسكين الذي كان، في ثقافته وحداثته وميوله الفكرية والاجتماعية، ابناً حقيقياً للقرن العشرين حتى وإن كان قد افتتح بموته (1900) أحزان هذا القرن، جون راسكين هذا، عمل خلال السنوات الأخيرة من حياته على محاولة سحب كتبه الأولى، التي وضعها حول الفن وفلسفة الفن، من التداول، ولكن عبثاً لأن إقبال الجمهور عليها جعل لها مكانة كبرى في تاريخ الفن. ولعل السبب الذي حدا براسكين إلى محاولة اخفاء كتاباته، هو أنه كان ينادي فيها علناً بأن المعمار والفن اللذين يبدعهما شعب من الشعوب إنما هما التعبير الحقيقي عن ايمان ذلك الشعب الديني وعن أخلاقه وعن تطلعاته القومية وأعرافه وعاداته الاجتماعية. فالحال أن راسكين عند نهاية حياته الطويلة، كان قد أضحى من النزوع الفردي في النظر إلى عملية الخلق الفني ما يمنعه من قبول نظرياته السابقة، حتى وإن كان في الوقت نفسه قد أمعن في استلهام المبادئ الاشتراكية والاجتماعية في دعواته السياسية والفلسفية الخالصة التي شغلت منه النصف الثاني من حياته، وبخاصة بعد أن كان قد أنجز نشر الجزء الخامس من كتابه الشهير في نقد الفن والتنظير له «فنانون محدثون». وفي هذا الإطار نشير إلى أن حياة راسكين قد انقسمت قسمين متساويين في عدد سنيهما: انهمك في أولهما في التنظير للفن ولكل ضروب الإبداع، كما أنه كتب الشعر ورسم اللوحات العديدة، بينما حوّل نفسه في ثانيهما إلى مصلح ومنظر اجتماعي اهتم بالمشكلات الاجتماعية وبالمسائل الدينية والتربوية والأخلاقية.

 ولد جون راسكين عام 1819 ابناً لأسرة موسرة مثقفة، وكان والداه من الاهتمام بحيث منعاه من أن تكون له طفولة عادية، بل أصرا على أن يحشوا رأسه الصغير بكل ضروب الآداب والفنون الكلاسيكية، فزار برفقتهما القصور والكاتدرائيات والمتاحف في طول أوروبا وعرضها، وتعرّف على الموسيقى الكلاسيكية وعلى أعمال كبار الرسامين والمسرحيين، وفي المقابل نراه لم يفلح في الدراسة كثيراً لأن ثقافته كانت أكبر من أن يستوعبها عمل مدرسي. ثم حين لاح له أن يهتم بالدرس حقاً وهو في الخامسة عشرة من عمره وقع في غرام فتاة فرنسية وكان غراماً مستحيلاً، أقعده عن أي رغبة في التحصيل، وحوّله إلى شاعر ورسام. وكان هذا أمراً طبيعياً لمن له ثقافته وحساسيته. وهو بدأ يلفت الأنظار، باكراً كشاعر ورسام، ثم ركز أموره وتحول إلى ناقد، لكن نقده كان هرطوقياً في مقاييس تلك المرحلة، حيث أن الجزء الأول من سفره «فنانون محدثون» والذي خصصه لأعمال تيرنر أثار من حوله عاصفة نقدية، بينما ظل تيرنر نفسه صامتاً ازاءه. غير ان العاصفة لم تثبط من عزيمة راسكين، بل انه تابع كتابته وراح ينشر الكتب والدراسات وهو موقن من أنه سيصل أخيراً إلى إقناع معاصريه بصواب نظرته حول علاقة الإبداع بالمجتمع. وهو تمكن من ذلك بالفعل في كتابه الأفضل «مصابيح الهندسة العمرانية السبعة» (1849) وهو الكتاب الذي كرسه وفتح أمامه كل الأبواب. بعده لم يتوقف راسكين عن الكتابة، فأصدر خلال عقد ونصف العقد نحو دزينة من الكتب كان أبرزها «حجارة البندقية» ثم «موانئ انكلترا» و «عناصر الرسم» و «عناصر المنظور» وصولاً في 1860 إلى الجزء الأخير من «فنانون محدثون». ومع هذا الجزء قرر التوقف عن الكتابة في الفن ليخوض في الكتابة في المجتمع والتربية والدين والأخلاق قائلاً: «أنا لم أعرف في حياتي شخصاً يمكنني أن أزعم انني أشبهه كلياً، سوى جان جاك روسو».

 وبالفعل بدأ راسكين ينشر ويحاضر ويجادل حول نظريات اجتماعية اشتراكية وإنسانية تقربه من روسو، وواصل طوال عقدين من السنوات اصدار الكتب الفكرية في الوقت الذي أصبح مدرساً في جامعة اوكسفورد (1869 - 1884)، وألقى في 1870 محاضرات تابعها جمهور غفير، ما جعله يشعر أنه حقق حلمه بأن يصبح معلم أجيال حقيقياً. ولقد ساعدته الثروة التي ورثها عن والده في تعزيز موقفه عبر دعم المشاريع الثقافية وإنشاء المتاحف وإعطاء منح للطلاب المتفوقين وتأسيس الجمعيات الاشتراكية والثقافية. ثم فجأة سئم ذلك كله، وانعزل خلال العشرية الأخيرة من حياته في عزبة له كان اشتراها قرب برانتوود، منكباً على تصحيح بعض نصوصه القديمة على ضوء معارف ومكتشفات العصر. وهو حين رحل عن عالمنا خلال الأسابيع الأولى من هذا القرن كان موضع احترام جماهير المثقفين في انكلترا ولكن في كل انحاء أوروبا أيضاً.

 

 


شريط الأخبار الملك يرعى حفل جوائز الملك عبدالله الثاني للتميز الخارجية: لا إصابات بين الأردنيين جراء الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان حزب الله: قصفنا مستعمرة "جيشر هزيف" بصلية صاروخية الحكومة تقرر تخفيض أسعار البنزين 90 و95 والديزل لشهر تشرين الأول المقبل وفاة احد المصابين بحادثة اطلاق النار داخل المصنع بالعقبة البنك الأردني الكويتي ينفذ تجربة إخلاء وهمية لمباني الإدارة العامة والفرع الرئيسي وفيلا البنكية الخاصة الخبير الشوبكي يجيب.. لماذا تتراجع أسعار النفط عالمياً رغم العدوان الصهيوني في المنطقة؟ حملة للتبرع بالدم في مستشفى الكندي إرجاء اجتماع مجلس الأمة في دورته العادية حتى 18 تشرين الثاني المقبل (ارادة ملكية) الاعلام العبري: أنباء عن محاولة أسر جندي بغزة تسجيل أسهم الزيادة في رأس مال الشركة المتحدة للتأمين ليصبح 14 مليون (سهم/دينار) هيفاء وهبي تنتقد الصمت الخارجي بشأن العدوان الإسرائيلي على لبنان مشاهد لتدمير صاروخ "إسكندر" 12 عربة قطار محملة بالأسلحة والذخائر لقوات كييف كمين محكم للمقاومة الفلسطينية جنوبي غزة في أول تصريح لوزير الاقتصاد الرقمي سامي سميرات يعيد "نفس الكلام" !! أبو علي: 100 آلف مكلف المسجلين بنظام الفوترة الوطني الالكتروني البنك "الاستثماري" يفوز بجائزتين مرموقتين من جوائز الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية العالمية المستحقون لقرض الإسكان العسكري لتشرين الأول (أسماء) نائب الأمين العام لحزب الله: "إسرائيل" لم ولن تطال قدراتنا العسكرية.. وجاهزون لحرب برية متقاعدو الفوسفات يعودون إلى الشارع مجددًا: تعنّت الإدارة وملف التأمين الصحي يشعلان الاحتجاجات