تهلل وجه الشيخ بالبشر والسعادة لأنّ الربيع حلّ مبكّرا في البادية الشرقيّة , وكثر في المراعي الشيح والقيصوم والحمض والعجرم والبعيثران , وكلّ الاعشاب التي تأكلها الماشية , التي ستخفف عليه عبء اطعام طرش الحلال الذي جلبه من نجد الى معان , و يحتاج الى كثير من الشعير والتبن , وعليه في الصباح الباكر أن يشدّ الرحال مع أبناءه الثلاثة والراعي غربا الى بئر السبع , فهناك ينتظره بيع الحلال , وايصال السلاح الى الثوّار , لأنّ ثورة القسّام قد قامت منذ زمن , واعتاد هو وغيره من ابناء معان ايصال السلاح الى الثوّار , مع ماشيتهم التي يذهبوا بها الى جنوب فلسطين , وفيها يمكنهم أن يبيعوا الماعز والضأن بأسعار جيدة , ثمّ يشتروا بضائع من غزّة هاشم , ليعودوا بها الى معان , فكلّ ابناء المدينة والبادية المحيطة بها , يفضّلون الاقمشة والاواني والتبغ والحلي , وغيرها من البضائع الكثيرة التي يجلبها التجّار من غزّة .
حمّل الابناء الثلاثة ما يحتاجونه من متاع لسفرهم الطويل على ظهور الجمال , ,وعلى ظهر جمل رحول حمّل سلاح من البنادق وعتادها مما طلبه الثوّار في المرّة السابقة منهم , ثمّ اطمأنوا على اسلحتهم الشخصيّة وتفقدّوها , ولم يسهروا تلك الليلة طويلا في المضافة , فبعد صلاة الفجر عليهم أن ينطلقوا الى الغرب , مع ابيهم والراعي المتمّرس .قضوا ليلتهم الاولى في الرشادية , وتزوّدوا بالماء من عين لحظة , ثمّ انحدرت بهم الطريق الى وادي عربة, وكان أكثر ما يخشوه , قطّاع الطريق والجنود الانجليز , فهم سيّان بعمل السوء . عند عبور الواد الضيّق الذي يوصلهم الى السهول الرمليّة ,
عاد اليهم الأبن الذي يكشف الطريق لهم ونبّههم الى أنّ الجنود الانجليز يقتربون منهم . تخلّف احد الابناء مع الجمل الذي كان يحمل الاسلحة لثوّار فلسطين , واختفى بعيدا , أمرهم الضابط والجنود ومعهم بعض الاعراب أن يتوّقفوا لتفتيش الأمتعة . حاول الشيخ أن يشرح لهم , أنّهم تجار اتوا لبيع الماشية في بئر السبع , وأن يمنعهم من أخذ ابنيه الى السجن , من غير فائدة , فهم كانوا يبحثون عن الاسلحة .
كانت الثورة الكبرى في كلّ فلسطين متقّدة , والثوّار بحاجة الى السلاح , وكان بعضه يأتيهم من البادية الجنوبية , وتحديدا من معان وجوارها , ينقله لهم متطوّعين من اهلها دون مقابل , لذلك أخذ الجنود الأبناء , وتركوا الشيخ والراعي مع الغنم . أخذ يتلوا آيات من القرآن , ويدعو الله أن يخفف على أبناءه , وما أن وصل الى بئر السبع حتّى أخبر من كان ينتظر السلاح بالأمر , وأنّه سيذهب الى الخليل من أجل أن يفرج عن أبناءه , واستأمن أصدقاءه من أهل البئر على حلاله . وفي الخليل وجد الضابط الانجليزي يقول له , مالكم ولأهل فلسطين , فأنتم من الشرق وتعيشون عيشة رغيدة , هم مخرّبون يهجمون على الجنود الذين يحمونهم , ويقتلون اليهود . أجابه الشيخ بعزّة العربي , انّ الدم واحد , ولا فرق بين شرقيّ الضفّة وغربها , فلم يكن هذا التقسيم موجودا الاّ لما تدّخلتم يا من تدّعون الحفاظ على أوطاننا , وانتم من اعطى اليهود وعدا بدولة في فلسطين , وحلف بالله لو أنّ كلّ ابناءه سجنوا ثمّ اعدموا في سبيل الله ومن أجل فلسطين فلا يبالي .
خرج الابناء من السجن , لأن العسكر الانجليز لم يجدوا الاسلحة التي يبحثون عنها , ولم يستطيعوا معرفة شيء عنها من الابناء , بينما كان الابن الثالث للشيخ قد اوصلها للثوّار , كي تكون بأيديهم للدفاع عن الارض العربية , فلسطين , وعاد الشيخ وابناءه الى معان , بعد أن استضافهم شيوخ جنوب فلسطين , سالكين الطريق نفسه , ولكن من دون خوف على بضاعتهم التي احضروها من غزّة , محمّلين بمحبة وشكر أهل فلسطين الى أهلهم في معان .