يثور السؤال الكبير حول مستقبل الصحافة الورقية، وعما إذا كان لها حظ من البقاء أو التكيف أمام المنافسة العارمة التي تواجهها من المواقع الإلكترونية، وقنوات التلفزة الفضائية ،وكاميرات الهواتف النقالة، والإعلام الالكتروني. ويتنبأ البعض أن يبدأ انحسار الصحافة الورقية بشكل متتابع في الدول المختلفة، وأن مصيرها في نهاية المطاف الاختفاء.
لقد أكد الاقتصادي النمساوي الأمريكي «جوزيف شومبيتر» في نظريته «الهدم البنّاء»، أن طبيعة التكنولوجيا الحديثة هي هدم الأنماط القديمة، والسلع والخدمات، بأخرى أكثر حداثة وتطوراً. وقد أبدى إعجابه الشديد بالمنظمين، أو المستثمرين المخاطرين أصحاب الرؤية المستقبلية، والذين يجددون سلعهم والمواد المستخدمة، والوسائل الإدارية، وأسلوب التسويق.
يتضح من تجارب القرنين الأخيرين، أو منذ الثورة الصناعية الأولى التي بدأت في منتصف القرن الثامن عشر في المملكة المتحدة، أن النمو غير المتوازن ينجم عن الحاجة إلى تطوير الصناعة السلعية والخدمية بسبب مشاكل تواجه الانتاج، أو رغبة في خلق سلع وخدمات جديدة. وبهذا النمط، تختفي سلع وأنماط إنتاجية، وتظهر مكانها أشياء أحدث وأسهل استخداماً وأعلى إنتاجية.
هذه العملية تتسارع مع الوقت بفعل التطور التكنولوجي الهائل الذي تتسع قاعدته على مستوى الدول والعالم. ولذلك، فإن عملية الهدم والبناء تتواتر بسرعة قصوى حتى أن السلعة التي تنتج اليوم تصبح بعد أقل من عام موضة بالية.
ولما برزت صناعة السينما وتطورت من الأفلام الصامتة إلى الأفلام الناطقة في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، قيل أن المسرح سوف يختفي. لكنه لم يفعل، بل وجد المسرحيون (أو المرسحيون حسب يوسف وهبي وحسين رياض)، طرقاً جديدة وموضوعات متطورة وتقنيات عالية في الإضاءة والديكور ما أبقى المسرح نشاطاً حياً.
قيل نفس الشيء أن صناعة السينما سوف تختفي لما ظهر التلفزيون. لكن أهل هذه الصناعة طوروا أفلامهم، وتقنيات الصوت، والمؤثرات، وأفلام الحركة، والموازنات الكبيرة ما حافظ عليها.
كذلك رأينا أن الراديو قد تهدد بفعل التلفزة والإعلام الإلكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي، لكن الراديو أعاد اختراع نفسه بمنتجات جديدة، وبرامج جديدة وكيّف نفسه مع سائقي السيارات والشاحنات وغيرهم، وقدم معلومات عن الطقس، وأحوال الطرق، وتخصصت الإذاعات في برامج إخبارية وحوارية ودينية وموسيقية ما أعاد لها جاذبيتها.
هل ستفعل صناعة الصحافة ما فعلته وسائل الإعلام الأخرى من تطوير على منتجها، وموضوعاتها، وطرق إخراجها وأساليب تسويقها؟ وهل هي قادرة بهذه الوسائل على تجاوز كلف الطباعة والورق والتوزيع والأجور والرواتب؟ هل تستطيع أن تعيد إنتاج نفسها أمام التحديات التي تواجهها.
لقد رأينا في الأردن مثلاً، حيث تعتمد الصحافة على جهد إدارتها في تمويل نفسها، أن الصحافة الورقية، وبخاصة الصحف اليومية قد انطوى بعضها وأفلس. وهنالك صحف تعاني من أزمة مالية صعبة. لقد صارت صحف الإثارة الاسبوعية (التابلوتز) معرّضة أيضاً للاختفاء لأن أصحابها استبدلوا بالصحافة الالكترونية حيث الرقابة اقل، والكلفة أدنى.
إن الدراسات والبحوث المنشورة على المواقع (جوجل) حول مستقبل الصحافة الورقية كثيرة جداً، ولا تكاد تحصى.
وقد أجريت دراسات في الولايات المتحدة عن دوافع القراء لشراء الصحف الورقية، ومنها مسح أجري في شهر آب (أغسطس) عام 2006، بيّن في ذلك الحين أن حوالي نصف القراء يشترون الصحيفة لقراءة الأخبار المحلية في مدينتهم، و(21%) يشترونها بسبب الكوبونات الموزعة معها للحصول على خصم عند شراء سلع من المحلات التجارية المعلنة في تلك الصحيفة، و (14%) يريدون قراءة الأخبار الوطنية أو الدولية و (7%) بسبب العادة، و (3%) يريدون معرفة الوفيات وفقط (2%) يشترونها لقراءة الأعمدة والتعليقات. أما ال (7%) الباقية فهي مجموعة اسباب أخرى متفرقة.
لكن دراسة أخرى وجدت أن الصحافة الورقية تعاني من نقص الإعلانات والدخل، وتراجع في التوزيع والأعداد المباعة، وارتفاع في التكاليف ما يرسم صورة قاتمة لمستقبلها. وقد نشرت مجلة الإيكونومست على غلافها صورة مكتوبة بأحرف ملصقة بأحجام متباينة يتساءل «من قتل الصحف؟؟».
وبالطبع توجهت اصابع الاتهام نحو المواقع الإلكترونية التي مكنت الناس من الإطلاع على الأخبار أولاً بأول، وبشكل تفاعلي، وكذلك جعلت منهم صحفيين مزودين بكاميرات هواتف تلتقط صوراً فورية لنبأ طارئ، وتصبح هذه الصور على رداءتها أحياناً مصدراً مهماً لمحطات الأخبار العالمية.
لكن أحد اهم أصحاب هذه المواقع، وهو «جيف بيزوس» مؤسسة «امازون» فاجأ الناس والمراقبين بشراء صحيفة «الواشنطن بوست». وقد نشرت مجلة «هارفارد بوليتيكال ريفيو» في عددها الصادر يوم 6/12/2014 مقالاً تحليلياً للدوافع السياسية والمالية لقيام «بيزوس» بهذا القرار المحيّر.
يقف عالم الصحافة في الوطن العربي أمام تطورات غريبة. وسوف يعتمد نجاح الصحافة الورقية على قدرتها في اجتذاب الشباب، والنساء، خاصة أولئك الذين يركبون النقل المنظم، ويمضون وقتاً طويلاً في التنقل بين بيوتهم وأماكن عملهم. وكذلك على قدرة الصحف على الاهتمام بالمواطن العادي، أو بقضاياه، وفتح المجال أمامه لكي ينشر أخباره وصوره وافكاره حول القضايا العامة.
وإذا تعززت فكرة اللامركزية في الوطن العربي، فسوف تصبح اخبار المحافظات والولايات والمدن هي الجاذبة للقراء. فهذه الوحدات الإدارية سوف تطور مع الوقت صحافتها ووسائلها الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة. وسيكون لكل وحدة إدارية قضاياها وشؤونها وهمومها التي تريد من صحافتها أن تتابعها، وتحللها، وتعلق عليها.
صحيح أن الصحافة الورقية في الدول المتقدمة الناطقة بالإنجليزية خاصة بدأت تتراجع، لكن نفس هذه الصحافة تشهد ازدهاراً ونمواً في دول كالصين والهند. والسبب أنها صارت تمثل مجموعات مختلفة، تجعل من هذه الصحف منبراً لها.
لقد قال آرثر ميلر، المؤلف المسرحي الكبير في الولايات المتحدة ذات يوم «الصحيفة الجيدة هي منبر لأمة تتحاور فيما بينها».
ينشر بالتزامن مع العربي الجديد اللندنية