هذا الشكل المحموم للاعتصامات والمظاهرات المتواصلة منذ أشهر ربما لا يحدث في اعرق الديمقراطيات، وهو ليس مظهرا ديمقراطيا -في زيادته عن حده- بقدر ما هو محاولة متعمدة لمنع الحكومة من العمل، واستنزافها في ملاحقة ما يجري في الشارع، والتحسب لما هو أسوء جراء تواصل هذا الشكل المغالى به من الاحتجاجات، وحدة المطالب، وقد اثر على شكل الحياة العامة، والمزاج الشعبي، وعمل الأجهزة الأمنية التي أصبحت في حالة استنفار متواصلة، وتعرض منتسبوها إلى الضغط النفسي، وعدم القدرة على ممارسة الأعمال الاعتيادية الخاصة بهم في الحياة.
وهذا المشهد لم يعد جميلا كونه فقد تلقائيته، وأصبحت تخيم عليه روح التحدي والاستفزاز، وتعمد الإثارة، وكأن الوطن يخلو سوى من اعتصام، أو مظاهرة أو مسيرة، وهي تمثل ذات الشخوص، والصور، والمطالب مع تغير في الأمكنة، مع فارق نوعي يخص تعبيرات دستورية مطلبية موضعية، ومحدودة بسقف زمني تنتهي بانتهاء المشكلة، وتعود الناس إلى أشغالها ضمن تفاهمات معينة مع السلطة.
وقد أصبح جزء من التعبير الديمقراطي مستفز للناس كونه لم يراع مصالحهم، وبات يتراءى من خلاله عملية الاستقواء، والمكاسرة مع الحكومة والأجهزة الأمنية، وهو ما يتعدى الأهداف النبيلة لمثل هذه التعبيرات الدستورية ، وكانت خلاصة هذا الحراك استنساخ مصطلحات، وبعض الشعارات التي أخذت تحدث تلوثا سمعيا، ومدعاة للغرابة، والاندهاش في المجتمع الأردني البعيد عن التجاذبات الحزبية، والذي ما يزال اقرب إلى بساطته رغم مظاهر المدنية البادية في وسائل حياته، وهذه ليست خاصة بجهة واحدة بل اقترفتها كافة الأطراف.
المظاهرة أو الاعتصام ليست غاية بحد ذاتها ولكنها وسيلة لتحقيق غاية، والمجتمع لا يكون مرتاحا من تواصل أشكال الاحتجاج، والذي قد يقابله الاحتجاج المضاد، وتعطيل سير المؤسسات الدستورية، والتأثير على مصالح الناس لمجرد الإصرار على الاحتكام إلى مثل هذا الشكل الذي ينبع من الشارع، وإبقائه مكان الحوار، والهاء الدولة بمجمل هذه التعبيرات الشعبية التي هي حق لكل مواطن، والذي يجب أن يحرص على استخدامها بالشكل الأمثل، وليس إفقادها قيمتها المعنوية بالاستخدام الجائر.
وعندما يتم دفع الشارع باتجاه قضية معينة، ولا يكون هنالك استجابة نوعية -مع عدم وجود مانع من خوف- فهذا دليل على أنها لا تحظى بإجماع الناس، ولا يعيرونها الاهتمام بذات الدرجة التي تنظر اليها المعارضة، مما يقتضي التراجع عن محاولات جر الشارع ليقف خلف هذه القضية، أو انتحال صفة تمثيله، أو تخوين الطرف المغاير في المعادلة، وهو ما يقتضي البحث عن قاسم مشترك آخر يمكن أن يمثل حالة إجماع وطني في الحياة العامة إذا كانت هذه القوى تراعي الأصول، والأعراف الديمقراطية، وتدرك أن رضى الناس مكمن الشرعية، وإلا فإننا نصل إلى ذات النتيجة التي نحن بصددها اليوم.
نحن لسنا في ساحة حرب في صحن الوطن، ويجب أن يكون دفاعنا عن وجهة نظرنا بطريقة حضارية، وان نحتمل مخالفة غيرنا لنا، فلا احد يحتكر الحقيقة، وتمثيل الناس لا يكون رغما عنهم، ومحاولات تشويه الأخر ستطالنا ما دمنا وافقنا على المبدأ، وفي ذلك إجهاض للتعددية، وحقوق الآخرين، ويجب مراعاة أن استفزاز الناس يلغي أهداف الحياة العامة.
وقد تم رصد الكثير من معاني التخوين والتشكيك في أدبيات بعض القوى التي تستخدم الشارع، إضافة إلى الشتائم التي تم تسويقها على الفضائيات بما يدعو للتساؤل أين هو المستقبل الأفضل الذي ننتظره جميعا، إضافة إلى مطالبات صدرت لا تمثل أولوية في الشارع، ولا في أي منطق سليم فهل الشعب يريد إسقاط النظام في الأردن، وهل الشعب يريد حل جهاز المخابرات العامة، وحل الدرك، وإقالة الحكومة، وحل مجلس النواب دفعة واحدة، وهل الشارع متفق على شعار الله الوطن الشعب، ودلالات هذا الشعار.
لقد صار لزاما التنبه إلى أهمية التوافق الوطني للعمل العام في الأردن، ومدياته، وضرورة أن يستمد شرعيته من الناس، وان نراعي عدم إقحام الأردنيين في قضايا ليست من صلب أهدافهم المستقبلية، وعدم إشعارهم بأنهم يجرون إلى عملية سياسية لا تحظى برضاهم.
وكذلك من حق هذه الحكومة أن تعطى الفرصة الكافية للعمل، لا إعاقتها وتحميلها مسؤولية عدم الانجاز، والعمل على إسقاطها، وكلما جاءت حكومة واجهت نفس المصير، وهذا يخالف تماما مصلحة الشعب، وأهدافه.