من هي الدولة العربية التي تخط اليوم الطريق نحو مستقبل تنويري معرفي تعددي، ينتقل بالمنطقة من حالة سباتها وجاهلية "دواعشها"، إلى الازدهار والاستقرار والابتكار؟ ليست مصر التي لم ينجح ثقلها العسكري والعددي، ولا أحزابها المدنية والدينية، في معالجة تحدياتها الراهنة. وهي ليست سورية قلب العروبة النابض التي شوهت ما يجب أن تكون عليه العروبة الحقة. كما أنها ليست العراق الذي لم يمنعه جيشه وبتروله من أن يتفتت كل يوم تحت وطأة النزاعات الطائفية. وبالتأكيد هي ليست السعودية رغم ثقلها المادي الكبير. إنها تونس التي لم يمنعها صغر حجمها وضعف مواردها من تقديم النموذج التعددي السلمي التنويري الذي يرسم الطريق نحو المستقبل المزدهر، ويبني الأسس اللازمة لتحقيقه.
لعب الأردن أدوارا مشابهة في السابق، أكبر من ثقله العددي والمالي. وقد استطاع تقديم نموذج كان في حينه متقدما على الكثير من دول المنطقة؛ فجمع بين الحرية الدينية التي ضمنها الهاشميون، والاعتدال السياسي والانفتاح على الآخرين من دون إغفال حضارته العربية أو التنكر لإرثه. كما كان نظامه التعليمي متفوقا على العديد من النظم في الدول المجاورة، ما مكنه من تصدير العمالة المدربة للمنطقة. هكذا استطاع الأردن التفوق، حتى إن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لم يجد إلا جلالة المغفور له الملك الحسين ليطلب منه توظيف علاقاته الدولية لاستصدار قرار من الأمم المتحدة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية العام 1967، فكان للأردن دور بارز في إصدار القرار 242.
الآن، كبرت الهموم، ولم تعد سياسات الأمس كافية لمعالجة تحديات اليوم. فالفجوة الاقتصادية تكبر داخليا، وتتسع بيننا وبين العالم؛ والفجوة الثقافية يهددها "الدواعش"؛ وفجوة الحريات السياسية وضعت المنطقة في أسفل سلم الحريات في العالم أجمع بما في ذلك دول أفريقيا؛ والاحتلال الإسرائيلي ما يزال جاثما، ومن غير المتوقع انتهاؤه في الأجل القريب.
وللأردن دور مهم يستطيع لعبه لمواجهة هذه التحديات، بل وتقديم النموذج الكفيل بمعالجة هذه المشاكل، مستفيدا من إرثه التاريخي؛ من دون التوقف عنده، بل الانطلاق منه لتطوير نماذج سياسية ومجتمعية تنويرية تحاكي تحديات العصر.
الدور الريادي لن يتحقق للأردن بسبب قدراته العسكرية أو المالية، مقارنة بما يملك غيره في المنطقة. ولكن كما تلعب تونس، وهي الأصغر عددا ومساحة، دورا رياديا في المغرب العربي، يرتكز على مفاهيم جديدة لإدماج فئات المجتمع كافة في بناء البلد، يستطيع الأردن لعب الدور الريادي نفسه في المشرق العربي، إن وظف إرثه التاريخي لبناء مفاهيم تنويرية، يمكن أن تشكل نقطة ارتكاز لعالم عربي جديد، عماده المعرفة، والتعددية السياسية والثقافية والدينية، والجندرية، وإطلاق الطاقات المحلية، وخلق مناخ يشجع الإبداع والابتكار، بل والاختلاف في الآراء أيضاً. وكما أثبت الأردن سابقا أن الانفتاح والاعتدال يعوضان عن المال والعدد، فإنه يستطيع فعل ذلك اليوم إن وسّع تعريف الانفتاح والاعتدال ليشمل مناحي الحياة الداخلية بكل أوجهها، إضافة للعلاقات الدولية.
إن كنا نريد مستقبلا أفضل، ومساعدة جلالة الملك في تحقيق نظرته الاستشرافية، فإن علينا تطوير مفاهيمنا للقوة والمنعة. وقد تكلمنا كثيراً عن المعركة الفكرية ضد "داعش"، ولم نر إلى الآن إلا جهودا لحشد قوى عسكرية. فمن الذي يحشد اليوم للمعركة الفكرية؟ هل هناك أي جهد لذلك، أم أن الموضوع ما يزال ينظر إليه العديد من القوى التقليدية على أنه ترف فكري أو سابق لأوانه؟ تونس أثبتت كيف يهزم الماضي الإقصائي بالمستقبل التنويري، وليس عن طريق الحل العسكري.
نجحنا في جعل العباءة الأردنية والكوفية الحمراء رمزين للعنفوان والشموخ والعزيمة. فهل نجعلهما أيضا رمزين للتنوير والعلم والتعددية بأشكالها كافة؟
كم كان الشاعر إبراهيم طوقان ثاقب النظرة حين دعا لموطن يكون فيه الحسام واليراع، لا الكلام والنزاع، رمزنا. فالحسام مطلوب لهدم الظلام، واليراع وحده القادر على بناء النور.