ما هو أخطر من الحروب الميدانية، حرب المفاهيم التي تديرها وتشحن الجمهور بأشكال مختلفة من الإزاحة وصرف الانتباه والتشويش والتضليل والبلبلة وخلط الاولويات والتناقضات.
ولنا أن نقول ان انحسار المنطق الجدلي لصالح المنطق الصوري والميكانيكي ساهم في ذلك.
فالمنطق الجدلي لايرى الاشياء بالتجاور او التقابل او التناظر او التماثل او التمثل، ولا بالايديولوجيا ولا بالسياسة ، بل وفق مقاربات معرفية علمية موضوعية، أساسها وحدة وصراع الاضداد، والتشخيص العلمي لصيرورة ولحظة التحولات الكمية الى كيفية، وتحديد التناقض الأساسي ومنه الرئيسي والتناقضات الثانوية المتحركة وفق مصالح طبقية محددة.
ومن ابرز موضوعات البلبلة والتضليل في حرب المفاهيم، الموضوعات التالية:
1.الخلط بين التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية، وتعزيز هذا الخلط بالتعميمات والاطلاقات، وازاحتها بعيدا عن المصالح العامة لأوسع الطبقات الشعبية.
ولعل اخطر تجليات ذلك على الصعيد العام، الإزاحة عن التناقض التناحري مع العدو الصهيوني نحو تناقضات ثانوية، وتحويلها الى تناقض أساسي.
وكذلك الإزاحة عن الصراعات الطبقية الى احتقانات طائفية ، ومثل ذلك الخلط بين مفهوم الصراع، ومفهوم النزاع..الخ
2.عدم التمعن في مفاهيم الدولة والحزب والطبقة والهوية والمجتمع والشعب، وهي في الحالة العربية ظواهر غير مكتملة ومشوهة بالنظر الى انه ما من مفهوم واحد يمكن انجازه خارج السياق القومي، المحارب ومن القوى الامبريالية والرجعية والطائفية، التي تستعيض عنه إما بمفاهيم قطرية كيانية أو مذهبية…. وعليه فإن مفاهيم مثل الجمهور والاهالي هي الأقرب إلى حالتنا من مفاهيم مثل الشعب والطبقة… الخ
3.الخلط بين مفهوم مثل الديمقراطية والليبرالية، فالأولى شكل من أشكال الحكم، والثانية مفهوم يربط الحريات العامة بحريات الأسواق.
وسبق أن قلنا إن فيلسوف الحرية جون لوك عندما تحدث عن هذا الربط، كانت البرجوازية والسوق الرأسمالية، ظاهرة تقدمية قياسا بالاقطاع في حينه، فيما الرأسمالية اليوم ظاهرة استعمارية.
4.الخلط بين مفهوم الثورة والثورة المضادة، فلا يمكن لقوى رجعية متخلفة وطائفية متخلفة، ولا يمكن لقوى مرتبطة بالامبريالية العالمية أن تكون جزءا من الثورة، بل هي ثورة مضادة.
وكذلك الخلط بين الارهاب ومنظمات الاجرام، فالارهاب ظاهرة فردية لا تؤمن بالجماهير، فيما الثانية على غرار الجماعات التكفيرية، ظاهرة مريضة مشبوهة مرتبطة بالاستخبارات الأطلسية والصهيونية.
5.ومثل ذلك قاموس المفاهيم المشبوه الذي انتجته الميديا الامريكية ومطابخ اليهودية العالمية لعائلات روتشيلد ومردوخ.
فما من "تصديرات" اعلامية يومية بعيدة عن هذه المطابخ وقاموسها من "الارهاب المتشدد"، الى العنف المفرط، الى الاسلحة الفتاكة وغيرها من الايحاءات التي تبرر الارهاب المعتدل والعنف المقبول والأسلحة غير الفتاكة..
ومن ذلك ايضا ازدواجية المعايير، فالثوار في اوكرانيا يصبحون انفصاليين، والانفصاليون جنوب السودان ويوغسلافيا السابقة وغيرها يصبحون ثوارا، والدكتاتوريات في بلدان معينة تصبح مقبولة، فيما تتحول صناديق الاقتراع في بلدان اخرى الى ديمقراطية مشكوك فيها وهكذا…