"ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل، الآية 125).
كتبت قبل عشر سنوات، في صحيفة "الحياة" اللندنية (11 تموز (يوليو) 2005)، أدعو إلى إعطاء أبو محمد المقدسي فرصة، طالما أنه يتجه إلى العمل السلمي ويرفض العنف؛ وكان قد بدأ في ذلك الحين، أو قبله بقليل، افتراق كبير بين المقدسي وأبو مصعب الزرقاوي حول أسلوب العنف الأعمى المتبع من الأخير. وها نحن بعد عشر سنوات في مواجهة جيل جديد من العنف، أشد وحشية وأكثر انتشارا ومكنة، في أنحاء كثيرة من العالم، وبخاصة في العراق وسورية ونيجيريا وليبيا وسيناء.
لا أتفق مع السلفيين، وإن كنت أرى أن السلفية العلمية قدمت، على مدى تاريخ الفقه الإسلامي، خدمات مهمة وجليلة للتراث الديني، ولجميع المذاهب الفقهية والتأويلية الأخرى، وللباحثين والمؤرخين. إذ يمكن اليوم، بفضل عمليات التحقيق العلمي للأخبار والنصوص، تقدير الصواب والخطأ في نسبة النصوص وصحة الأخبار. لكن السلفية ظلت على الدوام، كما الحال في جميع الأديان والحضارات، القوة الفكرية والاجتماعية للاتجاهات والسياسات المحافظة والمتشددة، واحتمت بها على الدوام قوى الهيمنة الاجتماعية والإقطاع. فالسلفية ظلت على الأغلب مؤيدة سياسيا للسلطات الحاكمة، لكنها في لحظات تاريخية كانت تتحول إلى قوة معارضة مدمرة ومرعبة، وبخاصة عندما تنشئ تحالفات وقواعد اجتماعية تجد فيها ملجأ للحماية والتحرك والعمل.
اليوم، يؤدي أبو محمد المقدسي دورا إيجابيا في محاولة إعادة التشكيل السلمي للسلفية، ومواجهة العنف الذي يهدد المنطقة. وهو يبدي بوضوح وعلانية معارضته للعمل العنفي غير المنضبط بشروط، أعتقد أنها شروط غير متوافرة أبدا. ويرفض قتل النساء والأطفال، والمخالفين لمجرد مخالفتهم، وغير ذلك من الأعمال التي تقع في العراق وغيره من دول العالم.
هل هناك فرص لمواجهة التطرف، وتشكيل حالة من الاعتدال، وتخفيف الأحقاد والاحتقانات؟ إذا كانت هذه الفرص ممكنة، فهي بالتأكيد تقع في سياق مشروع كبير للإصلاح والحوار والانتماء والمشاركة والتسامح والحريات والتأهيل المجتمعي، وتطوير التعليم والمناهج ووسائل الإعلام.
من المهم في هذه المرحلة بناء تماسك اجتماعي يخفف من التوتر الاجتماعي والانقسامات الفكرية والدينية، ويجعل ممكنا لجميع التيارات والاتجاهات العمل والتأثير السلمي. فبغير هذا العقد الاجتماعي سوف تفقد الأسواق قدرتها على العمل وتلبية احتياجات الناس، وتزيد هشاشة المجتمعات، وتقوى الانتماءات العشائرية والدينية في المدن المفترض أن تتشكل حول المكان والمصالح، بل لن يكون هناك مدن ومجتمعات حقيقية، وإنما تجمعات سكانية عابرة وحذرة. ولا يمكن الحديث في حالة الخوف هذه عن استثمارات ومؤسسات تعمل، ومجتمعات شريكة في إدارة وتنظيم الموارد والمصالح.