على وقع طبول الحرب التي تدقها الولايات المتحدة، وإن بالكلام حتى الآن، على سوريا، بدأت رقعات حلبة اللعبة الجيوسياسية تتحرك بسرعة هائلة. ومنذ وقوع الهجوم بالسلاح الكيميائي على الغوطة الشرقية، تجاوز كمّ التصريحات والإعلانات والتهديدات والتوعدات حدود الاعتيادي، ولكن لم تكن تلك المواقف تحمل من جديد على صعيد إعادة فرز اللاعبين الدوليين على جبهات.
روسيا من جانبها لم تغيّر جبهتها، إلا أنها بدت لمراقبين سياسيين أكثر تراجعاً عن مقولة «سنحارب من أجل سوريا حتى آخر نقطة»، لأن إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف كان واضحاً ولا لبس في معناه: «لن ندخل في حرب مع أي كان من أجل سوريا».
إلا أن روسيا على مدى أسبوع كامل، أي منذ وقوع مجزرة الغوطة الشرقية، حاولت بكل جهدها إخراج دمشق من دائرة الاتهام، ولم تتعمد استبدال متهم بآخر، فلم تتحدث بوضوح عن احتمال أن تكون المعارضة هي من نفذ هذا العمل الشنيع، كما أنها لم تشر إلى طرف ثالث في القضية، بل طالبت بكل رزانة دمشق بالتنسيق والتعاون مع لجنة المفتشين الأمميين الذين يتحققون من المسألة، في محاولة لدفع الديبلوماسية الدولية إلى الاستماع إلى «صوت العقل» وعدم اتخاذ أي إجراء عسكري قبل أن تصدر اللجنة تقريرها.
إلى جانب الموقف الروسي الرسمي الذي ورد، ويرد دائما على لسان وزير الجارجية سيرغي لافروف، كانت تعليقات رسمية أخرى تصدر من هنا وهناك على مواقع التواصل الاجتماعي والمدوّنات الخاصة، لتبدو أكثر حدة من الموقف الرسمي.
فالموقف الرسمي الآخر، ومن دون أن يتغاضى عن منطق التقاليد والبروتوكولات الداخلية، تبدّى في تصريحات توضح للعالم المترقبمن روسيا يقظة تهز موازين القوى وتقلب دفة السفينة، وتفيد بأنّ البلاد بعيدة عن هذا التدخل المباشر في الحرب.
تتمسك موسكو بخيط الرصاص الذي أطلق على المفتشين، فيقول ميخائيل مارغيلوف، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الروسي، إن «من أطلق النار على المفتشين يهدف قبل كل شيء إلى ضرب دمشق وتغطية أي أدلة حول هوية مستخدم الأسلحة الكيميائية».
وفي حديث مارغيلوف قناعة بأنّ دمشق لا ضلوع لها بتاتا بالهجوم الذي لا يزال بعض الإعلام الروسي يسميه حتى اليوم «الهجوم المزعوم».
وجاءت هذه الرصاصات التي استهدفت المفتشين على طبق من فضة لموسكو الداعمة لنظام بشار الأسد، ولتشير إلى أن النظام أعرب عن مساندته للجنة الدولية وأقر بضرورة التنسيق معا «فلماذا سيكون هو من سيضع العراقيل أمامها؟».
لا تستبعد موسكو أن يستمر الغرب في اختلاق الذرائع للهجوم على سوريا، وهذا ما قاله رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الروسي أليكسي بوشكوف، الذي أعرب عن اعتقاده بأن العملية العسكرية التي تحضر اليوم ضد سوريا هدفها تغيير النظام عبر تسديد الضربة إلى مرافقه العسكرية بغض النظر عن الذرائع.
ولكن كيف ترى روسيا الديكور المعد لهذه الضربة؟
في الاحتمال الأول لتطور الأوضاع الراهنة، يجمع عدد من المحللين الروس على أن الضربة إن تمت فستكون رمزية تستهدف مرافق عسكرية خاصة بالجيش السوري، وبالتالي فإنها ستكون ضربة قصيرة ويكفي لتنفيذها يوم واحد أو يومان تستخدم خلالها صواريخ «كروز» التي تطلق من أربع مدمرات أميركية تقع في البحر الأبيض المتوسط.
ولكن هنا يبقى التخوف الوحيد من الجانب السوري، الذي يملك السلاح اللازم، من استخدامه حق الرد وإصابة إحدى هذه المدمرات، ما قد يفتح أمام الولايات المتحدة باب الهجوم غير المدروس، إذ إنها قد ترى أن الأمر لم يعد يتعلق بأطفال الغوطة انما بأمنها الخاص.
ويعتبر مناصرو فرضية الضربة القصيرة المتقطعة، أن هذا الاحتمال يكون أشبه بتحذير لدمشق.
ويتحدث عن هذه الفرضية المحلل السياسي الروسي ألكسندر شوميلين، الذي يوضح أن الحد من الهجوم على نظام الأسد يفسر بضرورة توجيه رسالة إلى الرئيس السوري - وإلى روسيا أيضاً - مفادها أن لا حديث اليوم عن عملية واسعة ضد الأسد وجيشه، ولكن الرغبة والقدرة متوافرتان.
فرضية أخرى يطرحها المحلل السياسي سيرغي ديميدينكو الذي يقول إن «هناك ذريعة واحدة هي بشار الأسد المتهم بالجرائم الكبيرة والإبادات الجماعية واستخدام الأسلحة الكيماوية وغيرها. ولكنني أعتبر أن وسائل الإعلام الغربية تتمسك بهذا التيار الذي نسميه ضجيجاً فارغاً وبدون معنى».
ويعيد ديميدينكو إلى الأذهان مقابلة أجرتها مؤخراً قناة «سي ان ان» مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، وقد أكد فيها أن الولايات المتحدة لن تتدخل في سوريا من دون قرار دولي.
وفي الوقت عينه، يرى المحلل الروسي أن اللوبي السعودي القطري يمارس الضغط على إدارة أوباما في هذا الشأن، ولكنها «ضغوط بعيدة عن الرغبات الحقيقية».
ويكرر ديميدنيكو أن الولايات المتحدة لا مصلحة لها في المشاركة بعملية واسعة النطاق وإرسال القوات إلى سوريا أو شن عمليات قصف مكثف.
باختصار، يعتبر ديميدنيكو أن ما يحتمل وقوعه في سوريا سيكون أشبه بعملية «إلدورادو» في ليبيا ضد الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في العام 1986.
ومن بين مناصري هذه التوقعات عدد كبير من المحللين الروس الذين يعتبرون أن الضربات الغربية ستكون في حال وقوعها دقيقة محددة وموجهة ضد هدف محدد.
ولكن، هل تفسّر هذه الموجة الموقف الروسي الرسمي العام الذي بدا متراخياً؟
لعل التسارع في وتيرة الأحداث والتراجع الطفيف في حدة الهجوم الكلامي الغربي يؤكدان عقلانية الموقف الروسي.
فبعدما أعلن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أن المفتشين يحتاجون إلى أربعة أيام أخرى لإتمام التحقيق، تبقى أمام المجتمع الدولي أيام إضافية يناقش خلالها مسودة القرار الذي تقترحه بريطانيا على مجلس الأمن، والذي سينتهي على الأرجح بـ«فيتو» روسي - صيني، ومن ثم ينتظر الغرب اجتماع البرلمان الفرنسي الطارئ لمناقشة الأزمة السورية. وبعد هذه المحطات كلها، يحضر الرئيس الأميركي إلى روسيا للمشـاركة في قمة مجموعة العشرين.
كل هذه الإشارات دلالة غير مباشرة على أن الضربة قد لا تكون غدا، وربما ستبقى علامة على جدول أعمال الإدارة الأميركية في انتظار الحدث الذي سيمنحها «الحق الكامل»، ومن دون أي نزاع، في أن تتحول العملية العسكرية إلى واقع يصعب توقع ما سيخفيه من نتائج وعواقب.