منذ نهاية الثمانينات، شهد الأردن، مسارا طويلا معقدا لتخلي الدولة الوطنية عن دورها الاقتصادي الاجتماعي لصالح اقتصاد البزنس المعولَم. ولم يكن هذا المسار سهلا، فقد واجه مقاومة متعددة الأشكال من قبل المجتمع الأردني، وخصوصا في المحافظات والحركة الوطنية، في انتفاضات 1989 و1996 والمعارضة السياسية في سنوات 2005 ـ 2008 والتحركات الاجتماعية السياسية لعام 2010، وانطلاق الحراك الشعبي في العام 2011.
كانت انتفاضة 1989 ذات مضمون اجتماعي ـ سياسي صريح، لكن النظام وقوى المعارضة التقليدية تفاهما معا على الخروج من الأزمة بـ" ميثاق وطني"، يتجاهل ذلك مضمون هبة نيسان، ويحوّلها إلى محطة ليبرالية للإصلاح السياسي. ومذ ذاك وحتى اليوم، ظلت هذه المفارقة قائمة: حركة معارضة شعبية وطنية تريد استعادة الدولة من رجال البزنس، وحلول تنتمي إلى دائرة " الإصلاح السياسي" الليبرالي؛ يرى النظام أنه حقق الكثير منه، وترى المعارضة التقليدية أنه ما يزال هناك الكثير لتحقيقه. لكن، وسط هذا الصراع، كان يضيع الجوهر الاجتماعي الوطني للأزمة الأردنية المتفاقمة. في إطار الحراك الشعبي للعام 2011 ـ 2012، تبلور خطاب استطاع أن يفرض نفسه. وهو يدور حول شعارات متلازمة: استئصال الفساد، ومراجعة الخصخصة، اجراءات ونهجا، وتنمية المحافظات. وقد بدا، لوهلة، أن الدولة الأردنية تتجه لفهم حقيقة الأزمة، وأنها قد تستجيب لنداء تجديد الذات. ولكن، تبيّن أن الفهم لم يتجسد في سياسات. وقع، بالفعل، تقديم متّهمين إلى القضاء، لكن بصورة انتقائية ومجزأة، ولم يجر التوصل إلى الكشف عن القصة المتكاملة لمؤسسة الفساد التي سيطرت، خصوصا منذ 2005، ولم يجر تفكيك المؤسسة ذاتها. وهو ما جعل شبهات الفساد عالقة بالنخب والإدارات، وحال دون استعادة الصدقية العامة، ووسع الفجوة بين المواطنين والدولة. وتم تشكيل لجنة لمراجعة الخصخصة ـ من حيث هي اجراءات وقرارات، لا من حيث هي نهج وسياسة ـ وهو ما يفسر اقتصار عضوية اللجنة على الليبراليين. أما النهج نفسه، نهج الخصخصة الشاملة والإنفاق بالدين لمصلحة " الاستثمار" والهدر و تحويل الموارد من رعاية المجتمع إلى رعاية البزنس، فقد ظل سياسة رسمية رغم الفشل الذريع للتجربة محليا وفي كل مكان في العالم الثالث. أكثر من ذلك، عدنا القهقرى إلى الالتزام، مجددا، ببرامج صندوق النقد الدولي، ومعالجة أزمة المالية العامة بالترقيع وتحميل الأعباء للاقتصاد والمجتمع من دون وقفة مراجعة تجيب على هذا السؤال البسيط عن السياسات الخاطئة التي أدت إلى تجدد الأزمة وتفاقمها. بل إن الحكومة التي قررت استرداد كلفة الكهرباء بالكامل، لم تتوقف أمام المعطيات التي تقول إن هذه الكلفة تزيد عن الضروري بما لا يقل عن 30 بالمائة فاقدا وهدرا وتربحا وفسادا. وأخيرا، فقد أُنشىء صندوق لتنمية المحافظات، ورُفد بالمال. ولكنه فشل وسيفشل لسبب بسيط وهو أنه لا ينطلق من فلسفة التنمية وإنما من فلسفة الاستثمار والبزنس. وهكذا، وبدلا من التركيز على خطة تمويل ودعم مشروعات الانتاج الريفي المعتمدة على الميزات والخبرة والعمالة المحلية والملكية العائلية والتعاونية، وجدنا الصندوق يموّل استثمارات لرجال أعمال ينشئون مؤسسات ربحية رأسمالية في المحافظات ـ متمتعين بالتمويل الرخيص والاعفاءات ـ ويشغلون العمالة الوافدة! كان العام 2010 عام الوطنية والشعور بالذات الاجتماعية، وعام 2011 عام الأمل الذي تبدد وأعقبه اليأس. واليأس يفتك بالمجتمعات ويقوّضها من الداخل ويسمح باختراقها من قبل القوى والأفكار المتطرفة، ويسير بالبلاد نحو الفوضى، بينما النخبة الحاكمة مطمئنة إلى أنها تجاوزت الخطر. |
||
محطات في مسار اليأس والفوضى
أخبار البلد -