يبدو أن اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة لا يحتاج إلى تلك الدوافع في الانتفاضتين السابقتين في عامي 1987 عندما دهست شاحنة إسرائيلية سيارة يركبها عمال فلسطينيون، وفي 2000 عندما دنس دخول رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرئيل شارون باحة المسجد الأقصى.
الأنباء المتواترة تشي بالتحضير لتلك الانتفاضة وبمشاركة القوى الفلسطينية كافة، تأتي في وقت يشعر فيه الفلسطينيون أنهم أكثر قوة وتأثيرا بعد عدوان غزة الاخير، بعكس الاسباب السابقة التي تمثلت باحتجاج على الوضع العام المزري بالمخيمات، وانتشار البطالة واعتداءات الجنود الاسرائيليين، والشعور بإحباط عام لدى الفلسطينيين لانتهاء الفترة المقررة لتطبيق الحل النهائي بحسب اتفاقيات أوسلو.
تلك الانتفاضة لو تحققت ستكون الأكثر وقعا على المستوى الداخلي الاسرائيلي والمحيط الخارجي العربي، وتحديدا الاردن الذي وقع معاهدة وادي عربة في 1994؛ بسبب ضغوط سياسية واقتصادية بعد حرب الخليج الثانية، ولا تختلف كثيرا عن الحالية التي تشهد انقطاعا في المعونات وعزلة سياسية؛ بسبب التحولات السريعة في المنطقة، ليجد الاردن نفسه أمام معسكرين أحلاهما مر!
الاردن سيكون الاكثر تأثرا بتلك الانتفاضة، ليس لكونه المضيف الاكبر للاجئين الفلسطينيين أو من يحملون الجنسية من اصل فلسطيني فقط، بل سيجد نفسه محاصرا في حال تطورت الانتفاضة وبسط الفلسطينيون شروطهم مثلما حدث مع حماس اخيرا، ليتم تجاهل عملية السلام والعودة إلى الاصرار على قرار 242 الذي يطالب بانسحاب "إسرائيل" من الأراضي التي احتلتها في حرب 1967.
بمعنى أن المفاوض الفلسطيني -لا يشترط أن يكون بقيادة السلطة الحالية- سيجد نفسه قادرا على التحدث بقوة في بنود تتعلق بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدس وتفكيك المستوطنات وعودة اللاجئين دون قيد أو شرط؛ بسبب الضعف الذي تشهده "اسرائيل"، وبدأ ككرة ثلج تتدحرج على وقع "الربيع العربي" الذي بدأ يغير من شكل المنطقة.
ما سيدعم الفلسطينيين في مطالبهم هو سدات الحكم في الجزائر وتونس ومصر وليبيا وقريبا سوريا؛ إذ تضع تلك في أول سلم أولوياتها إبطال السلام مع "إسرائيل" رغم وجود اتفاقيات مسبقة، لكن مع الوقت ستجد تلك الحكومات مبررات قانونية لبطلانها، وستضيق اتفاقيات السلام لتشمل الاردن فقط الذي لم يجن منها حتى اللحظة أي مكتسبات سياسية أو اقتصادية.
تلك الرؤيا السابقة كانت من اسباب الترويج لموضوع الكونفدرالية أخيرا، لامتصاص ما يمكن من تداعيات تلك الانتفاضة، بل العمل على وأدها قبل ولادتها، لكن من يروج لها حاليا يغفل بأن الزمن تغير، وهنالك دول ضده تتسع مع تلاشي الاعتدال، وقد يكون التحول الغريب في سوريا من دولة ضد بقيادة بشار الاسد إلى دولة ضد حقيقية بقيادة اسلام سياسي.
يبدو أن خيارات الاردن تضيق في هذه الاوقات الحرجة، فالحديث عن تحالفات جديدة تقوض ذلك الامتداد الذي يمكن أن يدعم انتفاضة، أو مطالب الفلسطينيين في حرية تحقيق مصيرهم، يأتي مثل اللعب في الوقت الضائع، ومعاكسة التيار الذي بدأ يثبت وجوده ويزداد يوما بعد يوم قوة.
على الدبلوماسية الاردنية أن تعيد حساباتها؛ فمن الغريب أنها تملك مقومات ومعطيات اللعبة كلها، حتى إنها الوحيدة القادرة على اللعب بدور رئيس، إلا أنها تصر على اللعب واللهاث خارج الملعب، على اعتبار أن اللعبة لم تبدأ بعد!