باتت المفاوضات النووية الإيرانية مع الدول الكبرى أشبه بالمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية؛ طويلة وبلا جدوى. ولكن التَحوّل الأبرز مؤخرا، أن إسرائيل تبدو كما لو كانت حاضرة على الطاولة؛ كما لو كان المفاوض الغربي يفاوض وهو ينظر عبر النافذة إلى إسرائيلي يترقب النتيجة، متحفزا، متوعدا. بل تكاد المفاوضات تتحول إلى وساطة بين إسرائيل وإيران. وفي المشهد أيضاً أنّ الطرف الإيراني لا يقول لنا ما الذي يفعله، ويُضخم الإسرائيليون من خطر طهران، كما لو كانوا يرسمون لخصمهم أنياباً زائفة!جرت المفاوضات الأسبوع الماضي بين طهران والدول الخمس دائمة العضوية ومعها ألمانيا في بغداد. تحول العراق إلى نقطة محايدة أو ممكنة، للقاء إيران. ومشهد المفاوض الأميركي أو الدولي الذي ينظر من النافذة لمراقبة الإسرائيلي ليس بعيدا كثيراً عن الواقع. فبمجرد انتهاء مفاوضات بغداد، طار ثلاثة مفاوضين أميركيين، من ضمنهم رئيسة الوفد وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، ويندي شيرمان، إلى تل أبيب، للقاء وزير الدفاع الإسرائيلي إيهودا باراك، لمدة ثلاث ساعات. وبحسب صحيفة "هآرتس"، فإنّ أحد المسؤولين الأميركيين قال إنّ الحكومة الإسرائيلية هي أول طرف يتم إخباره بما يحدث، وأنّه قال "لقد أطلعنا الحكومة الإسرائيلية على التطورات قبل أن نخبر بها حكومتنا".لقد نجحت إسرائيل في وضع نفسها في قلب المشهد الإيراني، وأن يبدو الجميع مهتما بطمأنتها. وهي تكتسب على هذا النحو، عمليّا، شرعية سياسية بأن تكون طرفا في القضية، فتوجِد بالتالي تقبلا عالميا تدريجيا لفكرة تدخلها عسكريا، أو استخباراتيا، أو سياسياً.لم يؤد انعقاد المفاوضات في بغداد إلى تفكير بأهمية أن يحصل جيران إيران العرب على دور أكبر في المفاوضات، أو الاتصالات الخاصة بهذا الملف الذي يعنيهم قبل غيرهم؛ فالقنبلة النووية الإيرانية تعني دول الخليج العربية أكثر مما تعني أي دولة، وحتى المخاطر البيئية لمشروع نووي إيراني يمكن أن تعني هذه الدول أكثر من غيرها. ورغم ذلك فإنّ هذه الدول لم تحظ حتى بزيارة شبيهة بالتي حصلت عليها تل أبيب. وبحسب بيان من الخارجية الأميركية، ألغت شيرمان زيارة كانت مقررة إلى السعودية للقاء سفراء دول مجلس التعاون "بسبب صعوبة الأحوال الجوية"، وألغت لقاءً وجهاً لوجه مع أمين عام مجلس التعاون لدول الخليج العربية عبداللطيف الزياني، بسبب ضيق الوقت، وحادثته هاتفيا.وكما تتعمد إسرائيل الغموض في ملفها النووي، فقد باتت تتبنى أيضا خطابا غير واضح بشأن نواياها العسكرية إزاء إيران، ويتباين من مسؤول لآخر، ولكن مسؤوليها عمليا يتفقون مع الولايات المتحدة والعالم على ترجيح أن إيران ما تزال بعيدة نسبيا عن امتلاك قدرة تصنيع سلاح نووي. كما أن هناك تضاربا كبيرا فيما إذا كانت ضربة عسكرية سريعة يمكن أن تجهض فعلا المشروع النووي الإيراني الموزع في مناطق عدة، والمحصن جيداً. في الأثناء، تواصل إسرائيل الحديث عن خطط إيرانية لاغتيالات وتفجيرات تستهدف مصالحها في دول مختلفة حول العالم، وخصوصا دول وسط آسيا المجاورة لإيران، مثل أذربيجان. وبحسب "واشنطن بوست" قبل أيام، فإنّ خطط قتل دبلوماسيين كُشفت في 7 دول على الأقل، خلال الثلاثة عشر شهرا الماضية، تصل خيوطها إلى إيران. إيران من جهتها لا تقدم إلا ما يعقّد الموقف؛ فسياساتها العربية والخليجية غير واضحة، ويبدو كثير من إعلاناتها النووية لأغراض دعائية، وللتغطية على فشلها في اكتشاف عمليات اغتيال علمائها النوويين. وإذا كانت عمليات تفجير واغتيال كالتي تزعم إسرائيل أن إيران تنوي القيام بها لا تشكل بحد ذاتها ردا مقنعا أو محترماً لما تزعم إيران أنه اعتداءات إسرائيلية، فالرد على ما تراه إيران اعتداءً إسرائيليا يكون بأساليب واضحة وصريحة، رغم ذلك لا يستطيع النظام الإيراني نفي المزاعم بما يطمئن العالم. يبدو الملف النووي الإيراني من الزاوية الإسرائيلية وسيلة جيدة لحرف الأنظار عن سياساتها الاحتلالية في فلسطين، ولكسب الوقت، وتحسين موقعها في الخريطة الدولية. وللأسف، تساعد الإدارة الإيرانية لملفاتها على ذلك، وسط حالة السلبية العربية في هذا الملف كما في غيره