تعيش الأمة العربية اليوم حالة من الوهن الشديد الذي لا تخطئه عين، إذ تتراجع مكانتها، وتتبدد قوتها رغم كل ما تملكه من ثروات وموقع استراتيجي فريد، فهذه المنطقة التي شكلت عبر التاريخ مركزا للحضارة والتجارة والمعرفة، أصبحت رهينة واقع صنعته تراكمات التاريخ وتعقيدات الجغرافيا وموازين القوى العالمية.
منذ مطلع القرن العشرين، أدركت القوى الغربية جيدا خطورة ما يمكن ان تمثله هذه الأمة لو توحدت وامتلكت قرارها، فجاءت مشاريع التجزئة واعادة رسم الحدود وبناء كيانات قطرية ضعيفة قائمة على التبعية، فلم يكن الاستعمار مجرد احتلال عسكري، بل استراتيجية لضمان النفوذ والسيطرة، فعُين لكل قطر مندوب يضمن استمرار التبعية، ويحولون معا دون تشكل ارادة عربية جامعة قادرة على استثمار الثروات، او تحويل الجغرافيا الى قوة استراتيجية.
وبمرور الوقت، تحولت المنطقة الى ساحة مفتوحة لصراعات القوى العالمية، تتغير الادوار فيها، ولكن تظل المبادرة والقرار خارج ايدي العرب، وامتد اثر هذه الهيمنة من السياسة والاقتصاد الى الثقافة والامن وحتى المناهج، فأفرغت القومية من محتواها، وحاصرت كل محاولة للاستقلال او امتلاك القرار، عبر تدخلات مباشرة وغير مباشرة، وباتت الانظمة منشغلة بحسابات البقاء، او ارضاء الخارج، اكثر من انشغالها بحاجات شعوبها وتطلعاتهم.
تحولت موارد الامة الى رافد يصب في خدمة الآخر، ورغم ملايين الشباب المؤهلين، لم تعد الاوطان قادرة على احتضان طموحاتهم، فصارت الهجرة خيارا وحيدا هربا من البطالة وسوء الادارة وانسداد الأفق، بينما تتراجع منظومات التعليم والصحة، وتتسع فجوة العدالة الاجتماعية، وهكذا اصبح الموقع الجغرافي الاستثنائي، ساحة عبور واستنزاف بدلا من كونه مصدر قوة او رافعة تنموية، وبدل استثمار العوائد في تنمية حقيقية تخلق قيمة مضافة او استقلال، استنزفت في صفقات تسليح ضخمة، او اودعت في بنوك الغرب، فعادت بالنفع على غيرهم.
هذه التبعية افرزت واقعا جعل الامة العربية خارج معادلات التأثير، غيبت الدور العربي عن المنظومة الدولية، فلا حضور مؤثراً في مؤسسات القرار، ولا تمثيل فاعلاً في الدول الكبار، حتى ان القمم العربية لم تعد تحظى باهتمام، ولا تسترعي حتى انتباه الاعلام، وظلت قراراتها حبرا على ورق، او تكرارا لعبارات الانشاء، دون قدرة حقيقية على المبادرة او فرض اجندة وطنية جامعة، فصار العربي يشعر بغربة سياسية، وغياب ثقة في جدوى اي مشروع مشترك، بينما كانت تتسابق العواصم العربية لاسترضاء القوى الخارجية، حتى لو كان الثمن تفكيك ما تبقى من الروابط المشتركة وهدر الموارد.
ولا يمكن الحديث عن واقع الامة العربية اليوم دون التوقف عند مشهد الصمت المريب ازاء التجويع والمذبحة المستمرة في غزة، حيث يغيب الموقف العربي الجاد، وتتحول المواقف العربية الى بيانات خجولة، حتى صار هذا الصمت شاهدا فاضحا على حالة الوهن والعجز، ودليلا على مدى التراجع في المكانة والتأثير.
وما يزيد الامر قتامة ان استمرار هذا المسار يرهن الاجيال القادمة لإرادة الغير، ويعمق الفجوة بين ما تملكه الامة وما تستطيع فعله فعليا، وسط عالم لا يحترم الا الأقوياء، فظل الانسان العربي اسير شعارات الماضي والاحباطات المتكررة دون افق واضح للمستقبل، فلا التعليم ولا الصحة ولا التنمية ولا الكرامة متاحة للجميع، وتراجع الشعور بالانتماء لصالح الولاءات الضيقة والمصالح الفردية وحسابات البقاء.
ورغم الصورة القاتمة، تبقى هناك فرصة حقيقية للنهوض، اذا توفرت الارادة لإعادة بناء أسس الحكم والانتماء على اسس الشفافية والعدالة، واستثمار الموارد والموقع الجغرافي للامة كجسر للتكامل لا كممر للهيمنة، لان شرط النهضة العربية اليوم ليس فائض الثروات، ولا اتساع الجغرافيا، بل تحويل ذلك الى فعل حضاري، فالثروات والجغرافيا وحدها لا تصنع مجدا، بل يصنعه الوعي بالتغيير والإدارة الرشيدة التي ترفض التبعية وتعيد تعريف المصالح الوطنية، فتضع الانسان العربي واحتياجاته في قلب المشروع التنموي، وتعيد صياغة العلاقة مع العالم من منطلق الندية والتكامل، لا منطق الخضوع والاستهلاك





