حين ننظر الى الواقع الفلسطيني اليوم نجد أننا أمام مشهد متعدد المستويات والانشغالات، أبعد ما يكون عن التجانس، هذا الاختلاف لم يعد مجرد ترف او توصيف خارجي، بل صار جوهر التجربة الفلسطينية نفسها، وشرطاً لفهم معضلتها التاريخية والراهنة معاً، لقد انتجت سنوات الانقسام والتهجير وعنف الاحتلال المتواصل جغرافيات نفسية واجتماعية متباينة، حتى بات لكل تجمع فلسطيني زمنه الخاص، وهمومه التي تكاد تفصله عن الآخرين وتعيد تشكيل معنى الانتماء والمشروع الوطني في كل مرحلة.
ففي غزة، الحصار والدمار حوّلا الحياة الى معركة يومية من أجل البقاء، حيث صار الخوف من الموت والجوع اقوى من اي هاجس سياسي او وطني، هنا تتراجع الشعارات الكبرى الى الهامش، ويصبح الحصول على الغذاء والماء والدواء هو المشروع الوطني اليومي لكل عائلة، فوسط القصف المتواصل، والمذبحة التي لا تتوقف، لم يعد للفرد العادي طاقة للتفكير بمصير الوطن او مستقبل الدولة، بل اصبح يعيش لحظته المكثفة في انتظار النجاة، لحظة تتلاشى عندها ومعها الفوارق بين السياسة والمعيشة وتغدو الوطنية حلماً مؤجلاً أمام صخب الحاضر وضغط الحاجات الأساسيه والأولوية.
أما في الضفة الغربية، فيواجه الفلسطيني الآخر واقعا مركبا لا يقل صعوبة، حيث تتراكم فوق كاهله ازمات لا عداد لها، عنف المستوطنين، مصادرة الارض، ازمة الرواتب، الغلاء، البطالة، الفساد، المحسوبية، الولاءات السياسية والاجتماعية، وتردي الخدمات، هذه التراكمات ادت الى انشغال الفلسطيني بادارة تفاصيل حياتهم اليومية ومحاولة تحقيق استقرار شخصي وسط ضبابية المشهد السياسي وضعف الثقة بالقيادة، فلم تعد القضايا الوطنية الكبرى تشغل الاكثرية بنفس الزخم، بل باتت مشكلة الراتب او الامان الشخصي والاقتصادي اهم في وعي الناس من اي مشروع جمعي، في هذا المناخ، تبرز مشاعر الاغتراب عن القيادة الرسمية وتتراجع المشاركة السياسية، ليحل مكانها نزعة فردية محكومة باليأس او الخوف من المستقبل.
وفي القدس، يختلف المشهد مرة اخرى، حيث تختلط الوطنية بالحياة اليومية في مساحة ضيقة من التاريخ والجغرافيا والسياسة، هناك يخوض الفلسطينيون معركة صامتة وصامدة من اجل البقاء في قلب مدينة تتعرض لهجمة استيطانية شرسة ومحاولات متواصلة لطمس هويتها وتهجير اهلها، هناك لا يمكن فصل الروح عن الحجر، فكل شارع وحارة يحمل ذاكرة معركة مستمرة بين الوجود والانكار، فالقدس بالنسبة للفلسطينيين ليست مجرد عاصمة منشودة، بل عنوان دائم للاشتباك من اجل المعنى، حيث تصير ابسط تفاصيل الحياة فعلا وطنياً مقاوماً، ومع تصاعد التحديات اليومية، يشعر المقدسيون في احيان كثيرة بانهم معزولون عن بقية الشعب، يخوضون معركتهم وحدهم، ويتحملون عبء الدفاع عن هوية المدينة التي تبقى رغم كل شيء مركزا رمزيا وروحيا يوحد الفلسطينيين مهما اختلفت همومهم وتجاربهم.
في الداخل الفلسطيني المحتل، تتخذ الازمة طابعا مختلفا؛ فهنا المعركة مع الاحتلال تتلبس شكل النضال اليومي من اجل الكرامة والحقوق المدنية والحفاظ على ما تبقى من الهوية في بيئة تفرض الاندماج القسري وتغري بالنسيان، اما في الشتات، فالهم اليومي يدور حول اثبات الذات والبحث عن مكان وسط مجتمعات جديدة، مع عبء ثقيل من الحنين والقلق على الهوية ومستقبل الابناء، وتشتت الذاكرة بين جغرافيا غريبة ووطن مفقود.
كل هذه الاختلافات العميقة لم تنتج فقط وعيا متعددا، بل ايضا اولويات متباعدة، وصارت فكرة الوطنية الموحدة اشبه بالأسطورة، بينما الحقيقة هي ان الفلسطينيين اليوم باتوا جماعات متجاورة اكثر منهم جماعة واحدة، هذه الفجوات تطرح أسئلة فلسفية جوهرية، هل ما زال هناك معنى لمشروع وطني موحد؟ وهل يكفي الاشتراك في الجرح الأول لكي نبقى شعباً واحداً فعلاً؟
ان الاعتراف بهذا الاختلاف ليس عيبا ولا هزيمة، بل هو الخطوة الاولى لاعادة بناء تصور جديد للوطنية الفلسطينية، يقوم على تقبل التعدد والحوار لا الانكار والاقصاء، على الفلسطينيين ان يتعلموا من تجربتهم ان الحياة لا تتوقف عند الشعارات، وان هوية اي شعب تتقوى كلما اعترفت بتنوعها الداخلي وقدرتها على احتضان التناقض لا اخفائه.
ربما لا نملك اليوم القدرة على صياغة مشروع موحد، لكننا نملك شجاعة الاعتراف باننا مختلفون، وان وحدتنا الوحيدة الممكنة تبدأ من هذه الحقيقة الصعبة، وتنتظر لحظة تاريخية صادقة يبني فيها الفلسطينيون مشروعهم من جديد على اساس الواقعية والاحتواء لا على وهم التطابق وادعاء الوحدة