د. أحمد فايز العجارمة يكتب
نشأت الأحزب السياسي في سياق التحول نحو الدولة القومية الحديثة في أوروبا بدايات القرن الثامن عشر، وقد تزامنت نشأتها مع الكثير من التحولات الإقتصادية والإجتماعية التي أدت الى ظهور الدولة الديمقراطية الحديثة بنظامها السياسي الحديث الذي يقوم أساساً على مبدأ مشاركة الشعب في عملية صنع القرار، ضمن اطار العقد الإجتماعي، وبالتالي فإن فلسفة نشوء الأحزاب السياسية ترتبط بسياقات تاريخية، اجتماعية، واقتصادية محددة، وهي انعكاس لتطور المجتمعات وتحوّلها نحو أنظمة سياسية أكثر تنظيماً وتعقيداً.
ولعل أبرز هذه التحولات التي ساهمت في نشوء الأحزاب السياسية هي ذلك التحول الذي حصل في المجتمعات الغربية من المجتمع التقليدي الذي تسودة العلاقات التقليدية القبلية والمذهبية والطائفية، إلى المجتمع الحديث الذي تحقق فيه الفرز الطبقي الواضح بين مكوناته وسادت فيه العلاقات التي تعبر عن مصالح كل طبقة مقابل الطبقات الأخرى متجاوزة بذلك العلاقات التقليدية التي تقوم على روابط الدم والقبلية والمذهب والطائفة.
ولذلك فإن نشاة الأحزاب السياسية تُعدّ انعكاسًا مباشرًا للفرز الطبقي في المجتمع، فالمجتمعات التي تشهد فرزاً طبقيًا واضحًا غالبًا ما تنتج أحزابًا تُعبّر عن مصالح هذه الطبقات المختلفة، ما يجعل المشهد السياسي ساحة تجاذب بين قوى تعكس هذه التباينات.
فمثلاً نشات الأحزاب الإشتراكية التي تدعو إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين أوضاع العمال مع تزايد التفاوت بين الطبقة الرأسمالية المالكة لوسائل الإنتاج والطبقة العاملة التي تعاني من ظروف معيشية قاسية، وفي المقابل، جاءت الأحزاب الليبرالية لتعكس مصالح الطبقة البرجوازية الناشئة، التي رأت في تعزيز الحريات الفردية وتقليل تدخل الدولة في الاقتصاد ضمانًا لمصالحها. أما الأحزاب المحافظة، فقد مثلت مصالح الطبقات التقليدية المهيمنة مثل ملاك الأراضي وكبار التجار والمؤسسات الدينية، والتي ركزت على الحفاظ على النظام الاجتماعي القائم، والاستقرار السياسي، ما جعلها تتبنى مواقف رافضة للتغييرات الإصلاحية.
هذا هو السياق التاريخي الإجتماعي والإقتصادي الذي نشات فيه الأحزاب السياسية، أما الحال في المجتمعات التقليدية التي لازالت تهمن عليها علاقات الدم والقبيلة والمذهب والطائفة، فلا زالت حتى اليوم لم يتحقق فيها الفرز الطبقي الذي يجعل الفقير والعامل يدافع عن مصالح أبناء طبقته مهما كانت قوميتهم او مذهبهم أو طائفتهم، ولا يدافع عن ابن قبليته الفاسد والرأسمالي وينتخبه في كل مرة بتأثير من العصبية القبلية والمال السياسي!! هذه المجتمعات ما زالت تعيش في مجتمع المكونات (القبلية والمذهبية والطائفية)، ولم تصل بعد إلى مجتمع الطبقات الذي تعبر في الأحزاب السياسية عن مصالح طبقاتها الإجتماعية.
ولذلك نجد ان التجربة الحزبية في المجتمعات التقليدية لازلت تعاني من التفكك والضعف إذ تسري أليها أمراض المجتمع نفسه من العصبية والشللية والعنصرية والثارات البدائية التي تعيد انتاج صورة المجتمع المتخلف بصورة تبدوا شكلياً بأنها تنتمي الى التحديث والحداثة ولكنها في عمقها ليست إلإ أدوات جديدة تعيد أنتاج ما هو قديم بصورة كاريكاتورية مؤسفة، وستبقى كذلك حتى تعيد الأحزاب تعريف نفسها بوضوح بأنها تعبر عن مصالح طبقات إجتماعية محددة في سياق الصراع الدائم على السلطة والثروة والموارد، وأن لا تخشى من التعبير عن نفسها طبقياً وعن الفئات والطبقات التي تمثلها، (وهذه نصيحتي للاحزاب السياسية في الأردن)، متجاوزة بذلك كل التقيسمات القبلية والطائفية والعنصرية التي لا تخدم إلا قوى الهيمنة والنهب والإستبداد.