أخبار البلد - قرن مضى من عمر هذه البلاد التي نعيش فيها، كان مليئاً بالأكاذيب التي تحوّلت "حقائقَ" مُسلّماً بها، أنتجت جيلاً بعد جيل من الناس المضلَّلين التائهين، تلال من المعلومات والكتب التي روت التاريخ بالطريقة التي أرادها المستعمرون، أن تكون "عقيدة" راسخة في وعي الأمّة ولا وعيها، لا بل في الضمير الجمعي للعالم كلّه، ضلالات ومرويات وسرديات عوجاء عرجاء، أريد لها أن تكون مسلّمات في المناهج المدرسية، وفي كتب التاريخ ومصطلحات الإعلام، وفي ما يقذف به الساسة والزعامات في وجوهنا صباح مساء، حتى غدت جزءاً من التكوين الجيني للعقل الجمعي العربي والغربي، ونجا من هذه الأحبولة ثلّة قليلة من الباحثين والمفكّرين والنُّخَب، الذين ضاع صوتهم وسط مهرجان من الضجيج الآخر، فلم يكد يستمع إليهم أحد، حتى غدت أي صرخة لهؤلاء بلا صدى، مهرجان الأكاذيب هذا تسلّل (أو كاد) إلى كلّ زاوية في حياتنا، وغطّى الحقيقة بطبقةٍ سميكةٍ من الإفك والضلال، حتى بتنا معجونين بالزيف والتيه والضياع، بعد أن تحوّلنا روبوتات تحرّكها آلة الكذب تلك. ومن الغريب أن بعضنا، بل ربّما كثيرنا، لم يزل أسيراً لها، يسير حيث تسير، عن جهل أو عن وعي وقرار، ربّما لأنه أحد الجنود المجنّدين في خدمة وعبادة هذه الآلة الإله.
من الصعب في هذا الحيّز المتاح هنا حصر تلك الأكاذيب والمرويات الأسطورية الزائفة كلّها، وتبيان زيفها، ولكنّ التركيز هنا على اثنتين من الأكاذيب التي أصبحت عقيدة تتحكّم في سير حياة أمّتنا. أمّا الأولى فما يسمى "استقلال" البلاد العربية، وهي الفرية الأشدّ مضاءً في تمزيق أواصر الأمّة وتفطيعها، بزعم الحفاظ على "الوطن" و"استقلاله" ونقاء "الهُويَّة الوطنية" و"تماسك الجبهة الداخلية"، وما توالد من تلك الفِرية الكُبرى من خطاب مضلِّل عبثي يستهدف تحويل الخطوط التي رسمها كل من سايكس وبيكو وثناً يُعبد من دون الوحدة والاتحاد، بل غدا الحديث عن وحدة الأمّة مدعاة للسخرية والتسخيف. وشيئاً فشيئاً، تحوّل الحلم الذي داعب خيال ملايين الجماهير مفردة سمجة ممجوجة تُزّم الشفاه حين تُذكر.
في ظلّ المسلمات التي "رضعناها" مع حليب أمهاتنا، نحن أبناء العروبة أمّة واحدة، تجمعنا اللغة والعقيدة والتاريخ المُشترَك، ولهذه المسلّمة مقتضياتٌ، أبسطها أن تتحرّك الأمة لنصرة من يتعرّض للضيم والظلم، ولكن ما حدث طوال الحقب الماضية أن تلك الدول العربية "المستقلّة" لم تنتصر، لا لنفسها ولا لغيرها، حينما كان هذا "الغير" في أمسّ الحاجة إليها. والحقيقة أن الصرخة الأكثر إيلاماً هنا حين تسمع امرأة مسّها الإرهاب الصهيوني في غزّة تصرخ: أين العرب؟ ولم تكن هذه الصرخة لتنطلق لو لم تتعلّم هذه المرأة أن العرب ملاذها، وأن أمّتها هي من تنتصر لها حين تكون في حاجةٍ إليها، فلِمَ لمْ يحدث ما توقّعت؟ لِمَ تاهت هذه الصرخة فلم يكد يسمعها أحد؟ بل ربّما سمعها وسخر منها، إن لم يكن بالطبع أعان من ظلمها وحثّه على مزيد من إيذائها والتنكيل بها؟... الجواب ببساطة أن تلك الدول "المستقلّة" ليست كذلك، وأن قرارها المفترض أن يكون وطنياً لم يكن كذلك. وحتى لا نذهب بعيداً في تفسير خذلان تلك المرأة، يمكن أن تُختصَر المسألة في جملة واحدة، أن كل ما قيل في كتب التاريخ عن استقلال العرب و"تحرّرهم" من الاستعمار محض كذب، وأن تلك الأعلام والأعياد كلّها، وتلك الرموز "الوطنية" كلّها، محض خدع بصرية لا رصيدَ واقعياً لها، فالبلد المستقلّ لا يمكن أن يكون قراره ليس وطنياً، أبسط ما يفعله "زعيم" وطني أن يهبّ لنجدة امرأة من بني وطنه استنجدت به، كما فعل الخليفة المعتصم حين بلغته صرخة تلك المرأة "وامعتصماه"، وأي تأويلٍ خارج هذا السياق لا يستقيم عقلاً ومنطقاً، يعني باختصار شديد أن ما قيل عن استقلالات عربية من الاستعمار لم يكن حقيقة، وهذا هو الخطأ الأكبر الذي صحّحه "طوفان الأقصى"، فبلادنا لا تملك قرارها، ومن يقرّر فيها ليس أصحابها ونقطة، ومن يدافع عن هذا الخذلان بحجّة الحفاظ على المصالح الوطنية لهذا القُطر أو ذاك من أقطار العرب يضحك على نفسه ويخدعها، أو أنه جزءٌ من منظومة وسرديات الأكاذيب التي تروّجها آلة الإعلام العربية الرسمية.
لم يصحّح "طوفان الأقصى" خطأ التاريخ العربي فقط، بل خطأ ما يقال عن تاريخ حضارة غربية، هي في كنهها مدنية قامت على استعمار شعوبها وشعوب غيرهم أيضاً
ثانية تلك الأكاذيب، وأكثرها أهمّية على الإطلاق، هي ما تعلّمناه في المدارس وكتب التاريخ الرسمية عن "عداء" النظام العربي الرسمي ما تسمّى "إسرائيل"، وخوض هذا النظام حروباً ضدّها، وأولى تلك الحروب وأكثرها أهمّية حربان: النكبة والنكسة، فقد تعلّمنا أن الجيوش العربية خاضت حرب 1948 لمجابهة العصابات الصهيونية، ومنعها من احتلال فلسطين، وحرب 1967 لـ"رمي اليهود في البحر" أو في أحسن الأحوال دفعهم إلى العودة إلى البلاد التي أتوا منها، وهنا يحتاج الأمر إلى بعض التفصيل، فمجموع من دخل من جنود الجيوش العربية بلغ 15 ألفاً لمواجهة جيش العدو (وليس "العصابات الصهيونية") البالغ تعداده حينها مائة ألف من الجنود المدرّبين، الذين يملكون أحدث الأسلحة التي أُنتجت في ذلك الوقت، طبعاً مع الفرق الهائل في التدريب والتسليح بين العرب واليهود. يعني هذا باختصار أن تلك الحرب لم تكن حرباً بالمعنى المعروف، بل كانت مسرحية لإعطاء العدو الشعور بأنه خاض "حرب استقلال" لا استهبال. وترتّبت على هذه المسرحية الكارثية سلسلة من المواقف "الوطنية"، التي أعطت "إسرائيل" الفرصة، ليس للبطش بالشعب الفلسطيني فقط، بل للسيطرة على فلسطين كلّها، وأيضاً امتدّت سيطرتها في فضاء حيوي يكاد يغطي ما يسمّى "الوطن العربي" كلّه، بعد مسرحية وليس حرب عام 1967 (النكسة). ولهذا تضيع صرخة تلك المرأة الغزّية "أين العرب؟"، لأن من تناديهم هم من يحمون قاتلها، ولم يكن تصحيح هذا التاريخ ليكون بمثل هذا الوضوح لولا "طوفان الأقصى"، الذي لم يصحّح خطأ التاريخ العربي فقط، بل خطأ ما يقال عن تاريخ حضارة غربية، هي في كنهها مدنية قامت على استعمار شعوبها وشعوب غيرهم أيضاً، وتحويلهم عبيداً في خدمة الصهيونية.
سيعيد "طوفان الأقصى" (بل أعاد) كتابة التاريخ المعاصر، ولكن من دون أخطاء، ولهذا تجد كثيرين يطالبون برأس مفجّريه وسَحقهم، كي تبقى الشعوب تسبح في عسل الأكاذيب إيّاها، وأنَّى لهم أن يبلغوا هذا الهدف، بعد أن خرج المارد من قمقمه.
"الطوفان" إذ يصحّح أخطاء التاريخ
حلمي الأسمر