قضى فخري قعوار سنواته الأخيرة بعيداً عن الأضواء تماماً، على خلاف طبعه وطبيعته، مقاتلاً لا يركن إلى دعة أو عزلة في الظلّ، ومردّ ذلك معاناة طويلة مع مرض الزهايمر الذي قذف ذاكرته خارج وعيه، فإذا الصفحة التي كانت مليئةً بالحبر تصبح بيضاءَ تماماً، فتحرمه حتّى من التحديق في الموت أو انتظاره.
ولمن لا يعرف قعوار من القرّاء العرب، فهو من بين قلّة من الكتّاب الأردنيين الذين كان القارى يبتاع الصحيفة لقراءة مقالته اليومية في ثمانينيّات القرن المنصرم وتسعينياته، وكان إلى ذلك من كتّاب القصّة القصيرة المميّزين، وإنْ كان بناؤه القصصيّ تقليدياً وأميل إلى الواقعية في نموذجها الشائع، الذي يُعلي من شأن الرسالة أو القول على حساب الفنّ. ومن اللافت أن تكون بداياته المُعترَف بها نقدياً في مجلّات مصرية، خاصّة مجلّة القصّة، التي ترأسّ تحريرها محمود تيمور، وأن تكون مجموعته القصصية الأولى "ثلاثة أصوات" (1972)، مشتركةً مع القاصَّين خليل السواحري، وبدر عبد الحقّ الذي فتك به الزهايمر أيضاً، والثلاثة جمعوا بين الأدب والصحافة والمشاغل السياسية بدرجات متفاوتة، على عادة الكتّاب ودأبهم آنذاك.
وعلى خلاف رفيقَيه (عبد الحقّ والسواحري)، كان ثمّة فائض طاقة أو غريزة قتالية لدى قعوار (إذا صحّ الوصف) دفعته إلى عبور أكثر من حقل في الآن نفسه، فقد كان صحافياً وأديباً وكاتب سيناريو ونقابياً ونائباً في البرلمان، أي أنّه كان مشتبكاً بالحياة بكُليّته وطيلة الوقت وبكلّ أداة توفّرت له وأتقنها، ولم يكن في هذا كلّه تصالحياً بل محارباً، فخلال ترؤّسه رابطة الكتّاب الأردنيين أربع دورات، والاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب دورتين، عُرِفت عنه مقاومته الشرسة للتطبيع مع إسرائيل، حتّى لو كان مُجرَّد اشتباه ليس أكثر.
وعندما انتُخِب في البرلمان، في أعقاب ما عرفت في الأردن بـ"هبّة نيسان"، حافظ على روحه المحاربة هذه، وما زال كثيرون من مواطنيه يتذكّرون بعض كلماته في المرحلة البرلمانية تلك، التي تُعتَبر استثناءً في التاريخ الأردني. ولنقل إنّ تلك الورقة التي خطّ عليها قعوار أولى كلماته في يفاعته كانت تمتلئ بالحبر المُؤذي لكثيرين والمؤنس لآخرين، سواء خطّ بذلك الحبر قصّةً قصيرةً أو خطاباً سياسياً، وهو ما ينسجم مع مفهوم الكتابة لديه ولدى قطاع كبير من أبناء جيله، فالكتابة التزام على نحو ما، ورسالة وليست ترفاً منفصلاً عن مشاغل الحياة وتفاصيلها نحو أفق جمالي يكتفي بنفسه وبها يحتفل.
كان قعوار في ظنّ كاتب المقال روحاً محاربةً، لا تتحرّك في جبهة واحدة، ولا تكتفي بوسيلة دون أخرى، لذلك وجدته يكتب القصّة والمقالة والسيناريو وأدب الأطفال، في الصحف والمجلّات والإذاعة والتلفزيون، بالتوازي مع أدوار رآها مصيريةً في عمليه، النقابي والسياسي، بمقارعة أعداء الأمّة، وكان ثمّة من يؤمن بتعبير كهذا آنذاك، حتّى لو بدا مُحارباً طواحين الهواء.
على أنّ ذلك لا يعني انفصاله عن الواقع، بل تورّطه أكثر ممّا يجب في قضاياه، وبعضها صغيرة، وكانت هذه لعبة قعوار الأثيرة الذي كتب مئات المقالات عن قضايا محض صغيرة، تتعلّق بشؤون يومية سيّارة تخصّ المواطن وانشغالاته الحياتية، وقارب ذلك بسخرية باهرة، وخصوصاً في سلسلة مقالاته ذائعة الصيت التي جمعها لاحقاً في كتابه "يوميات فرحان فرح سعيد".
كما فعل ذلك في مجموعاته القصصية التي تكتسب أهميتها في حقبتها، مثل "لماذا بكت سوزي كثيراً" و"ممنوع لعب الشطرنج" وسواها، وفي هذا كلّه ظلّ الدور الوظيفي لدى قعوار أولويةً، فعلى الكتابة أن تقول، أن تجرح وتفتح العيون، وهو ما لا يمنع أن تُمتِع وتُؤْنِس، بما يعكس شخصيةَ الرجل نفسه، الأقرب إلى المحارب العنيد منه إلى صورة المتأمّل في الحياة والذات الإنسانية بحثاً عن المعنى الكبير.
أتذكّره في مكتبه بالقرب من دوّار الواحة في نهاية شارع الغاردنز في عمّان، خلال ترؤّسه الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب، أنيقاً خلف مكتبه، بقميصٍ مُقلّم وربطة عنق حمراء، وبنظرة لعوب مشاكسة تنتظر نِزالاً مع أيّ عدوٍّ مفترض. نعم هكذا هي الأمور كما بدت لي آنذاك، خلف البدلة الأنيقة ثمّة من يختبر الحياة ويُجهّز نفسَه للعراك معها، إنْ بابتسامة أو بلكمات تدمي الخصوم... وداعاً.