كما أن هذا السلوك -حرق نسخة القرآن- ليس حرية تعبير، ذلك أن حرية التعبير في القوانين والمعاهدات الدولية ليست مطلقة، بل هي مقيدة بشرط عدم مخالفة النصوص الواضحة في قوانين تلك الدول أو بشرط متفق عليه في الفقه القانوني الأوروبي، وهو أن ممارسة الحرية تتوقف عند حد الاعتداء على حرية الآخرين، ومنها حرية الاعتقاد عندهم وحرمة مقدساتهم ومعتقداتهم.
من نافلة القول إن القرآن كتاب محفوظ عند المسلمين "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، ولهذا فإن حرق نسخة منه ومحاولة إهانته علنا لن يمس قيمته عند المسلمين ولا عند العقلاء بشيء، وأنا شخصيا أشجع سلوكا آخر للرد على السفهاء بالتعالي عن سفاهتهم واغتنام هذه الفرص لإظهار السنة النبوية في التعامل مع إيذاء السفهاء من الناس بالصبر وإظهار قيم الدين ذاتها، وأهمها حرية الاعتقاد وتكريس مبدأ "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس". إنني أتفهم غضب الناس لانتهاك شعورهم الديني ومقدساتهم ، ولكن "المؤمن كيس فطن" لا يجب أن يعطي شخصا سفيها قيمة لا يستحقها ولا أن نحقق له أهدافا شخصية دنيئة بالحصول على إقامة أو جنسية بالاحتجاج بما يلاقيه من تهديد أو قتل! التهديد يجب أن يكون بتطبيق القانون!
في جنين أيضا، يبدو أن إحراق الناس أمر مباح عند الغرب، باعتباره دفاعا "ضد الإرهاب"، وهنا تتغير القيم والمعايير رغم أن المقاومة الشعبية المسلحة مشروعة في القانون الدولي، ورغم أن إسرائيل تجتاح أرضا محتلة باعتراف القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، إلا أن أميركا والغرب يقفون بنذالة مع عدوان إسرائيل على أهل فلسطين باعتباره مقاوما للإرهاب!
كل ما تفعله أميركا وأوروبا أنها تغسل أيديها من دماء الضحايا أو تنتهي من إحصاء ما سرقته وتسرقه من الشعوب، ثم تجلس على كرسي الحضارة والثقافة والمدنية، وتبدأ التنظير على العالم في حرية الرأي والتعبير وحرية الفرد وحق تقرير المصير، أسوأ المستعمرين هم اللابسون هندام المدنية وحقوق الإنسان، المبشرون بأفضل معايير التمدن والحضارة وحقوق الفرد والجماعة، ولكنهم المكيّفون لها لتبرر تناقضهم وجرائمهم واعتداءهم على مقدسات الناس وحرياتهم وحقهم في تقرير مصيرهم.
هنا في محيطنا العربي والإسلامي المشهد كئيب، ففي حين نتنافخ شرفا وحمية للدفاع عن المقدسات والقرآن، فإننا قد فشلنا حتى في أن نقيم حوارا حقيقيا بين أتباع القرآن نفسه، وما نزال نمارس إرهابا دينيا على بعضنا بعضا، وما تزال سلوكات الناس، متدينين وغير متدينين، بعيدة عن قيم القرآن وسنة رسوله، وما نزال تاركين الأخذ بأسباب الحضارة والحرية والتقدم العلمي ومتمسكين من الدين "بقشور" تاركين قيمته الحقيقية الصافية، وما يزال هذا الثقل العربي الإسلامي معول نزاع بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين شركائهم في الوطن.
أما أهل جنين وفلسطين، فإن قصة خذلانهم مستمرة، فمن المطالبة بتحرير كامل التراب الفلسطيني من البحر إلى النهر فإن أنظمتنا تتسابق اليوم على النضال من أجل التهدئة، والتهدئة تعني استكمال مشروع إسرائيل بأكل الأرض وطرد الفلسطيني!
بين إحراق القرآن وإحراق جنين حالة هوان عربي إسلامي ما تزال تؤشر على أن الخلاص لن يكون سوى بالعلم والعمل والتكامل الاقتصادي العربي تمهيدا للاستقلال عن الاستعمار الخشن والناعم الذي ينخر في عظامنا، وحتى ذلك الحين قل خيرا أو اصمت جنابك!