وبعد أن عاش الإعلام صورته الجميلة بشكل متناغم مع المكتوب والمسموع والمرئي لعقود طويلة، جاءت ثورة الانترنت وقلبت جميع المقاييس الاعلامية التي اعتدنا عليها وقامت بتحولات عميقة، وأخذتنا إلى أماكن لم نكن نتوقعها أو نتنبأ بها ولا مجال لذكرها هنا، إلا أن ما يمكن القول بهذا الصدد ان الراديو لم يعد أحادياً وتلقياً إجبارياً، حيث ظهر البودكاست ليضع نفسه في مواجهة امام الاذاعة وأثيرها، وكجميع المنصات التفاعلية يختار فيها الناس احتياجاتهم ويشاركون في الوقت ذاته في الرأي والبث، وتستطيع بموجبه وسائل الإعلام أن تقدم لكل شخص ما يريد، وتستمع لكل شخص أيضاً، ويمكن إتاحة مساحات لأي شخص لإسماع صوته، وبدأت هذه المنصات تساعد المجتمع في أن يفهم القوى التي تشكل عالم اليوم، وتساهم في نشر الأفكار التي تساعد في تحقيق التحوّل في المجتمعات.
ومع احتفال العالم بيوم الراديو، يطرح السؤال بعينه كل مرة: هل ستبقى الإذاعة وسيطا إعلاميا مهما، وهل سيظل لها دور في عصر وسائط التواصل الاجتماعي التي أخذت تشغل اهتمام معظم الناس هذه الأيام؟ وهل ما يزال هناك ولاء منقطع لمحطات اذاعية معينة؟ وما نزال نعتمد عليها كمصداقية للاخبار؟ يبدو ان هذا الزمن قد انتهى وتشكلت حاجة ملحة لإعادة تنظيم القيم والاتجاهات وفق مؤثرات وفرص جديدة تملكها أطراف فاعلة.
وقد تنبهت اليونسكو للتغيرات التي طالت بالراديو كغيرها من الوسائل الاعلامية الاخرى واختارت شعارا رفعته قبل خمس سنوات في يوم الاذاعة العالمي «أنتم الإذاعة». وربما كان دافع اليونسكو من هذا الشعار هو التوسع الكبير لاستخدام (البودكاست) أي البث الصوتي الذي خطف الشباب من الإذاعة وأصبحوا أقل ارتباطًا به، بينما ما تزال الاجيال السابقة متأثرة بالاذاعة وبقيت في وجدانهم وذاكرتهم.
في حين ان مستمع البودكاست هو الذي يبحث عما يناسب ذائقته، بينما الراديو ما يزال يفرض ما يقدمه للمستمع من خلال خطة برامجية خاصة به ويتحكم في أوقات بث برامج معينة تستهدف شريحة من المستمعين بينما يرسل البودكاست إشعارات للمشتركين بوجود محتوى جديد، وهو ما تفتقر له محطات الراديو.
ويتسابق كل من البودكاست والاذاعة في جذب المستمعين، وكل منهما يحتفظ بميزات دون الآخر فالراديو ما يزال يمتلك المكتبة الصوتية الأصلية، وحصرية بث بعض الأغاني، وبث المسلسلات الإذاعية، ونقل الأخبار والمباريات ومناقشة الأحداث. ولا نفاضل هنا ما بين هذا أو ذاك، ولكن هل سيصمد الراديو أمام جمهوره المخلص ولا يخذل من اعتادوا على الاستماع إلى اثير الاذاعة واللحاق بركب التقنيات ويضخ الحياة فيه ويتجاوب مع احتياجات العصر، في وقت أصبح احترام المعايير الأساسية للصحافة الأخلاقية أمرًا صعبًا في العصر الرقمي المتغير وسريع الايقاع، وهل سيتعهد المستمعون في أن يكونوا على اطلاع واسع ودراية بحيث يكتشفون المحتوى المفيد لهم ويستهلكونه ويستجيبون له بشكل جدي؟