فرّقتِ اللّغة العربيّة بين الصّمت والسّكوت تفريقًا يدلّ على فصاحتها ودقّتها في تصوير المعاني على أحسن وجه وأروعه. ولكنّني قبل أن أخوض في هذا الموضوع وأطوّف حوله في حديث موجز، يجب أن أشير إلى أمر مهمّ، وهو أنّنا لا نكاد نجد فرقًا بين الصّمت والسّكوت في اللّغة العربيّة الحديثة، وإنّما يُستعمَل السّكوت مرادفًا للصّمت في كثير من الأحيان، كما يُستعمل الصّمت مرادفًا للسّكوت، وهو الإمساك عن الكلام، أو انقطاع الصّوت.
غير أنّنا إذا سرّحنا النّظر في الأدب العربيّ القديم، واستقصينا ما ورد في مؤلّفات أهل اللّغة، وجدنا نفرًا من العلماء يميّزون بين السّكوت والصّمت، ويذهبون إلى أنّ السّكوت هو ترك الكلام مع القدرة عليه. فإذا قلنا: سَكَتَ فلانٌ، كان معنى هذا القول أنّه قادرٌ على الكلام، ولكنّه اختار السّكوت. أمّا الصّمت، فلا يتقيّد بهذا القيد؛ لأنّ الصّمت هو خُلُوّ الصّوت، وهو ما تختصّ به الأشياء التي لا تقوى على النّطق أو الكلام.
نلاحظ في هذا التّفريق أمورًا متعدّدة: الأمر الأوّل أنّ السّكوت يُقال في كلّ من له قدرة على النّطق أو الكلام (وأعني بالنّطق إحداث الصّوت). يقال في الإنسان؛ لأنّه قادرٌ على الكلام، ويقال في الحيوان؛ لأنّه قادرٌ على إصدار الصّوت، وقد يكون في صوته هذا تعبيرٌ عن شيء ما. نقول: «سَكَتَ فلانٌ»، ونقول: «النّاقة السَّكُوت»، وهي النّاقة التي لا تَرغُو ولا تَضِجّ إذا أراد صاحبُها أن يهيّئها للسّفر، وإنّما تكون ساكتة وادعة مستعدّة للرّحلة الطّويلة.
الأمر الثّاني أنّ الصّمت يقال في الجماد، وهو كلّ ما خلا من الرّوح. ولهذا، فرّقت اللّغة العربيّة بين أنواع متعدّدة من الأموال. فرّقت بين المال التِّلَاد، وهو الموروث، والمال الطّارف، وهو المكتسَب، كما فرّقت بين المال الصّامت والمال النّاطق. الصّامت هو الذّهب والفضّة؛ لأنّهما من الأموال التي لا قدرة لها على إحداث الصّوت، والنّاطق هو الإبل والغنم؛ لأنّ الماشية صائتةٌ قادرةٌ على إصدار الصّوت. ويقال: «دِرْعٌ صَمُوتٌ»، وهي الدّرع الملساء التي إذا لبسها الفارس لم يَسمع لها صوتًا.
الأمر الثّالث أنّ السّكوت يكون طوعًا واختيارًا؛ فإذا قلنا: «سَكَتَ فُلَانٌ»، فمعنى ذلك أنّه قادر على الكلام، ولكنّه أمسك عنه طائعًا مختارًا. أمّا الصّمت، فهو أمر مطلق؛ لأنّه يقال في الجماد، والجماد غير صائت بطبيعة الحال.
الأمر الرّابع أنّ السّكوت عكس النّطق أو الكلام، وربّما كان الكلام أخصّ من النّطق عند الحديث عن السّكوت. هذا هو الأصل، غير أنّنا يجب أن نشير إلى أنّ الصّمت قد يكون خلاف النّطق أو الكلام في أشياء سنقف عندها. فنحن نَعلم أنّ الإنسان ليس قادرًا على النّطق فحسب، وإنّما هو قادرٌ على النّطق والكلام جميعًا: قادرٌ على إصدار الصّوت، وقادرٌ على أن يَجعل صوتَهُ كلامًا يخاطب به النّاس ليُعبّر عمّا يريد. ولمّا كان مدار النّطق على الكلام، صار الإنسان، إذا أمسك عن الكلام، يُوصَف بالسّكوت. أمّا الصّمت، فقد مرّ بنا أنّه يختصّ بالجماد. ولهذا، كان خلاف النّطق؛ لأنّ النّطق هو القدرة على إحداث الصّوت، والجماد لا يَملِك أن يُحدِث صوتًا.
ولعلّ من أبلغ الأبيات وأروعها في الحديث عن الصّمت والنّطق قول أبي العلاء المعرّيّ: وَقَدْ تَنْطِقُ ٱلْأَشْيَاءُ وَهْيَ صَوَامِتٌ / وَمَا كُلُّ نُطْقِ ٱلْـمُخْبِرِينَ كَلَامُ! والمعنى: قد تحدّثنا الأشياء عن أحوالها وأخبارها وإنْ كانت صامتةً خرساء؛ لأنّ النّطق بالأخبار لا يكون بالكلام فحسب، بل لا يلزمه أن يكون بالكلام، وإنّما قد يكون بالصّمت أيضًا، وهو الصّمت الذي يغني عن ألف كلمة وعبارة. وكم من شيء في هذا العالم الفسيح يُفصِحُ عن نفسه ويُبِينُ عمّا حلّ به وبأصحابه بما نشهده من حاله وما نَسمعه من صمته المطبق. أَنظرُ إلى ذلك المنزل الخَلاء، وقد تهدّلتْ أبوابُهُ تحت أقدام العصور، وتمايلتْ نوافذُهُ بين أنياب الرّياح، وتوكّأتْ جدرانُهُ على عصا الأيّام، وشابت حجارتُهُ تحت سياط العواصف، فيقع في خاطري أنّه منزل مهجور قد خلا من أهله منذ عهد بعيد، فأخذ يبثّ لواعج الشّوق إلى أولئك الرّاحلين الذين حَمَلُوه تحت صدروهم وتركوا قلوبهم فيه. أنظر إليه فأجده صامتًا، ولكنّه في صمته هذا أفصحُ من كلّ شاعر وأبلغُ من كلّ أديب! فما أبلغك أيّها الصّمت حين تكون كلامًا، وما أبلغك أيّها الكلام حين تكون صمتًا.
وهذا يُسمّى في الأدب العربيّ بلسان الحال، وهو أن ينبئنا الشّيء بما فيه، وأن تخبرنا حالُهُ بما حلّ به. وقد قَصَدَ المعرّيّ إلى هذا المعنى، فوصف الأشياء التي تعبّر عن نفسها بالصّمت. ومن الأبيات البليغة في الصّمت قول أمير الشّعراء أحمد شوقي في رائعته «مجنون ليلى» وهو يخاطب وادي الموت فيقول: أَنْتَ فِي ٱلصَّمْتِ مُبِينٌ / وَمِنَ ٱلصَّمْتِ كَلَامُ! هناك يصغي الشّاعر إلى الصّمت وهو يلقي إلى النّاس أبلغ المواعظ عن الموت والحياة، ويحدّثهم عن أولئك الرّاحلين الرّاقدين الذين ينامون على وسائد الكرى في هذا الوادي العميق. ويقول العبّاس بن الأحنف يصف حاله وحال محبوبته عند اللّقاء: وَأُقْسِمُ لَوْ أَبْصَرْتَنَا حِينَ نَلْتَقِي / وَنَحْنُ سُكُوتٌ خِلْتَنَا نَتَكَلَّمُ. ويقول في موضع آخر: تُحَدِّثُ عَنَّا فِي ٱلْوُجُوهِ عُيُونُنَا / وَنَحْنُ سُكُوتٌ وَٱلْهَوَى يَتَكَلَّمُ!
لم تقف اللّغة العربيّة عند الفرق بين الصّمت والسّكوت فحسب، وإنّما تجاوزت ذلك إلى المشترك بينهما، ودلّت على أنّ السّكوت يمكن أن يكون صمتًا في موضعين. الموضع الأوّل: إذا طال سكوت المرء، كان سكوتُهُ صمتًا؛ لأنّه أطال السّكوت فصار بمنزلة الجماد الذي لا يقدر على النّطق والكلام. نقول: صَمَتَ فُلَانٌ إذا طال سكوتُهُ. والموضع الثّاني: إذا عَجَزَ الإنسان عن الكلام لمرض ما، أو لعائق يَعوقُهُ عن النّطق والكلام، كان سكوتُهُ صمتًا. وهنا اختارت اللّغة العربيّة الفعل المزيد «أَفْعَلَ»؛ لأنّه وزن يدلّ على داء يصيب الإنسان. نقول: أَصْمَتَ العليلُ إذا عُقد لسانُهُ فلم يجد قوّة على الكلام.
ولزهير بن أبي سُلمى بيتٌ رائع يُروى له في معلّقته الغرّاء. يقول: وَكَائِنْ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ / زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي ٱلتَّكَلُّمِ! والمعنى: كم من رجل صامت تراه فيعجبك صمتُهُ، ولكنّك تتبيّن فضلَهُ أو نقصَهُ إذا تكلّم؛ لأنّ الكلام دليل على عقلِهِ ومعدِنِه. فلا يغرَّكَ هذا الصّمت، ولا يخدعك ما تراه من منظره، وإنّما محكّ المرء لسانُهُ. وقد قيل: تكلّمْ حتّى أعرفك! أشار زهير هنا إلى الصّمت؛ لأنّه أراد أن يصف رجلًا يطيل السّكوت فيُخيَّل إلى النّاس أنّه وقور رزين، غير أنّ مردّ الأمر في هذا كلّه إلى الكلام؛ لأنّه ترجمانٌ للعقول والطّبائع ومرآةٌ للقيم والأخلاق.
إنّ الحديث عن الصّمت والسّكوت لا تستوفيه مقالة واحدة، وإنّما يحتاج إلى دراسة مفصّلة نستجلي فيها الجوانب المتعدّدة ونقلّب الأوجه المختلفة حتّى يتاح لنا أن نحيط بهذا الموضوع إحاطة واسعة تسير بنا في آفاق الأدب العربيّ قديمه وحديثه. وإنّني لأسمع في الصّمت والسّكوت صوتًا عذبًا رقيقًا يحدّثني عن بلاغة لغتنا العربيّة وفصاحتها، ويبعث في نفسي شغفًا عظيمًا بهذه اللّغة الحبيبة، التي مَلَكَتْ عليّ فؤادي منذ ميعة الصّبا وغضارة الشّباب. وكم طوّفت في ربواتها فوجدتُ هزارًا يهتف، وبلبلًا يصدح، وأقحوانةً تتضوّع، ودوحةً تسمو، وجدولًا يُرنّم، تأبى على نفسها صمت الصّخر والرّماد. إنّ الصّمت أبلغ من الكلام أحيانًا، ولكنّ أعظم اللّغات تلك التي تكون أبلغ من الصّمت في كلّ حين! تلك التي تكون ترجمانًا للمحبّة ورسولًا للبِرّ والسّلام في هذا العالم، لا ينقطع صوتُها ولا يَغيب صداها، ولو وضعوا على لسانها ألف صخرة من السّكوت والصّمت.