قال لي أحدهم: هل أنتم دولة منتجة أم مستهلكة, قلت له: مستهلكة حتى النخاع, قال لي: اذن معظم كراسيكم تبقى مشغولة غير فارغة طيلة الوقت, قلت له: عفواً لم أفهم ماذا تقصد, قال: أقصد أن الدول المنتجة تبقى معظم كراسيهم فارغة غير مشغولة طيلة الوقت.. أنتهى الحوار بيننا وانصرفت مسرعاً أبحث عن كرسي.
مشهد الكرسي في وطني مشهد غريب عجيب يدعوا للتأمل والقلق في آن واحد, وأكثر من ذلك أرى أن موضوع الكرسي في وطني يحتاج بكل صراحة إلى إجراء مزيد من الدراسات النفسية المعمّقة والعمل على استقطاب أشهر علماء النفس لتفسير كثير من الظواهر المتعلقة بهذا الكرسي, كيف لا والكل دون استثناء يزحف ليل نهار على كرسي كي يجلس.
وقد يستغرب أو ربما يستهجن البعض منا من أن بعض صور الأطفال لدينا وقبل الولادة بـ(40) يوماً التقطت لهم صور وهم على وضعية وعلى هيئة الجلوس على كرسي ولكل من الجنسين الذكر والأنثى, وقد خالفوا بهذه الظاهرة الغريبة جميع أطفال العالم!
وأكثر من ذلك فقد تم رصد طريقة واتجاه حبو الأطفال عندنا وعند بقية أطفال العالم, وقد تبيّن أن معظم الأطفال عندنا تحبو مسرعة اتجاه الكرسي! في حين أن بقية أطفال العالم تحبو اتجاه الكرة المتحركة أو الكرات الملونة.
كيف لا وقد لوحظ أيضاً أن طلبة الصف الأول في مدارسنا عندما يخرج المعلم من غرفة الصف, يتهافت معظم الطلبة الصغار على كرسي المعلم للجلوس عليه, ومن لم يستطع منهم الوصول إليه نجد أن في قدمه كسر أو خدر.. انها ظاهرة تستحق الوقوف والتوقف عندها.
الأمر عند الكبار أكثر تعقيداً.. فالجميع يلتّف ويدور حول هذا الكرسي دورة كاملة, ومن يجلس عليه متمسّمر لدرجة التشنّج, ومن غادره بات يحاولُ العودة إليه, ومن لم يجلس عليه بعد يحفر بالأربع للوصول إليه, وفي نفس الوقت هناك كرسي متعب, تجده يجلس عليه مستنفرون ويقف عنده متأملون ويزحف نحوه آخرون.. كل ذلك في آن واحد.
حزين عليك يا وطني.. تركنا فيك «المجرفة» و«الطورية», وتركنا فيك «الشاعوب» و«المذراة» وخلعنا على أرضك الثوب الأسود والسروال الأبيض والعقال والكوفية ولبسنا البدلات السوداء المخططة والقمصان البيضاء والكرفتات الحمراء.. تركنا على أرض الوطن شاي الحطب المعطّر وشربنا شاي الضغط العالي وترامينا نتفّتل حول كرسيه المثقلة, وكتبنا بالخط الرقعي على أبواب مكاتبنا المرتجفة.. الكرسي أولاً.
وطن الكل يزحفُ على كرسيه.. الجار والمجرور, الفاعل والمفعول, الناصب والمنصوب, الجازم والمجزوم, الكاسر والمكسور, الساكن والمسكون.. وأكثر من كل ذلك.. الضام والـ(مضموم), وطن كرسيه متنازع عليه.. ولذا يبست بذوره في الارض قبل أن تنمو, وسقطت أزهاره فجراً قبل أن تُعقد, والواقفون فيه الواقفون حول الكرسي سكارى وما هم بسكارى, وطن كرسيه مطموع فيه.. فالكل فيه يطلب كرسي, والكل فيه يسحب كرسي, والكل فيه يشد الكرسي, والكل فيه يحلم ويتحالم ويحتلم بالكرسي.
وطن الكل فيه مشغول بالكرسي خوفاً عليه وطمعاً فيه, والكل فيه يبكي على كراسيه حكراً, والكل فيه يحفر تحت كرسيه ليغتنم الفرصة, وطن نتهافت فيه على الكرسي لن تنجح فيه (شتلة), وسيصبح الكرسي فيه من قش, وسنتباكى يوما عليه قائلين: كراسي القش كم سكبت لنا رطبا وحَباً.. العالم اليوم يتجه نحو إنتاج سِلال من الغذاء المتنوع الطبيعي, وليس إنتاج كراسي دوّارة متنازع عليها, نريد زحفاً نحو الإنتاج, وليس زحفاً نحو الاستهلاك, يا من تخافون على كرسي الوطن!
ويبقى السؤال, لماذا لدينا إدمان وعقدة الكرسي, كرسي الوظيفة.. قبل الولادة وبعدها؟ الجواب - والله أعلم- يكمن في طبيعة العلاقة ما بين طريقة (الوحام) وتشكّل تطلعات الجنين.
دمتم بخير.