قبل مئة وتسعة عشر عامًا بسطت اللغة العربية- على لسان الشاعر حافظ إبراهيم - شكاتها ورجاءها إلى معشر الكتاب في جمع حفل بهم، قائلة بعد نعيها حظّها بين أهلها:
فإمّا حياةٌ تبعث الميْت في البِلى// وتُنبت في تلك الرموس رفاتي
وإمّــا ممــــــاتٌ لا قيــــــــــامـــــة بعـــــــده // مماتٌ لَعَمري لم يُقس بممات
وقبل عشرة أعوام غازل الشاعر راشد عيسى اللغة
العربية قائلًا:
يا أم يعرُب من حقي أذوب هوى// فمـــــن سواكِ بهـــــــــذا
العتمِ مُلهمتــــي
ردّي إلــــى أمّتي نامــــــوس عزّتـــــها// مِن
قبل أن يُحسِنَ التاريخ تعزيتي
أكثر من مئة عام فصلت بين الرسالتين: الأولى أرسلتها اللغة العربية الأكيدة أنّه: (وكم عزّ أقوام بعزّ لغات)، والثانية أُرسِلت إلى اللغة العربية مؤكدة أنّه: (وللنهار طلوع من يد اللغة).
ولعلّها مصادفة طريفة تلك التي جعلت رسالة عيسى تُبعث إلى اللغة العربيّة مطلع عام 2012، وهو العام الذي بدأ فيه تنفيذ قرار منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة/ اليونسكو، اختيار الثامن عشر من كانون الأول من كل عام يومًا عالميًّا للغة العربية، تخليدًا لليوم الذي كانت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1973 قد اتخذت قرار اعتماد اللغة العربية لغة رسمية، ولغة عمل لها، تضاف إلى اللغات الخمس التي تعتمدها.
والمتأمل في مضمون الرسالتين الشعريتين المذكورتين، وفي التواريخ السالفة المرتبطة بهما، وبموضوعهما الرئيس (اللغة العربية) يقف حائرًا أمام المشكلات التي عانت منها لغتنا العربية عبر عشرات السنين؛ لأنها تكاد تكون ثابتة لا تتغير؛ ويمكن الاطلاع عليها مجتمعة في عناوين أيامها العالمية الفائتة أو شعاراتها التي تعكس قضايا تشغل دائمًا بال الباحثين فيها وفي همومها؛ لنجد أنها مرتبطة بعلاقة اللغة العربية بالإعلام، وبالعلوم، وبالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وبالرّقمنة، وبالتشريع والقوننة، وبأبنائها من فئة الشباب على وجه الخصوص، وبدورها التواصلي الحضاري، وصولاً إلى شعار العام الحالي: مساهمة اللغة العربية في الحضارة والثقافة الإنسانية.
وفي كل عام تتسابق المؤسسات التعليمية والثقافية والمجامع اللغوية للاحتفال بهذا اليوم، في إطار ندوات، ومحاضرات، ولقاءات حوارية، وفعاليات متنوعة ثقافية، وأدبية، وفكرية، ومسابقات إبداعية، وأنشطة أدبية وثقافية مختلفة، يُلاحظ في أحايين كثيرة أنها تنحو منحى التكرار الممجوج، وتتخذ طابع الاستعراض المعلوماتي، وتنهج التنظير المبني على تعلّق مفتعل غالبًا بلغة هجرناها في واقع الاستعمال اليوميّ إلى غيرها، واتّهمناها بالصعوبة، وبالضعف، وبالعجز، وبالقصور عن تلبية متطلبات العلوم الحديثة، وملاحقة الحداثة، ومواكبة العصرنة؛ الأمر الذي يسوّغ افتتاح عيسى قصيدته بإعلانه القلق على العربية نفسها، بل على نفسه ممثّلا أهلها:
قلبي عليك فماذا بعُد يا لغتي// يكاد يشهقني بركــــــان أسئلتــــــي
قلبــــــي علـــــــيّ فمرآتي مغبّشـــة// ولم تكن قدّ هذا التيه بوصلتي
وبالعودة إلى فحوى الرسالتين الشعريتين آنفتي الذكر نجد أنه يشي بأن مشكلات اللغة العربية بعيدة كل البعد عن اللغة نفسها، بل إن لغتنا العربية ذات خصائص، وسمات، وصفات تجعلها بمنأى عن الوقوع في مثل ذلك؛ فهي- وفقًا لحافظ إبراهيم- التي وسعت كتاب الله لفظًا وغاية، وما ضاقت عن آياته وعِظاته، وهي المُهيّأة- بناء على ذلك- لوصف الآلات والمخترعات الإنسانية الجديدة، بل إنها البحر الذي يكمن الدرّ في أحشائه، لكنّه بحاجة لمن يغوص بحثًا عنه، وهي التي تنماز بنقلها تواترًا من السّلف إلى الخلف، والحظيّة بأجداد صانوها وحفظوا وِدادها، دعت لهم، وترحّمت عليهم، محذّرة أبناءها في عصور الحداثة بقولها: فلا تكلوني للزمان فإنني// أخاف عليكم أن تحينَ وفاتي.
ثمّ نقرّ ونحن نقرأ رسالة عيسى إلى اللغة العربية، مستكنهًا جوهرها، ومضيئًا خصائصها، أنّ العربية حيّة خالدة لا تشيخ ولا تموت، يتماهي فيها شاعر عروبيّ يعربيّ فيجدها حرّيته، وكرامته، وهويّته، واهبةَ الجاه والسّلطنة، مبارِكة العمر، ومانحة الخلود، تتعاطى الحياة لأجل أبنائها فتمنحها لهم، ليظلّوا فخورين بأجدادهم العرب، ومبهورين بإرثهم من جهة، وقادرين على النهوض به وتطويعه بما يواكب عصورهم الحديثة من جهة أخرى؛ الأمر الذي يفتح أمام عيسى أفقًا تمتدّ فيه لغة شعره ألقًا وأنقًا، ليؤكد على أنغام صوت العربية المكتنز بألفاظ جديدة طبيعة علاقته الوحدويّة بها، ويبيّن عمقها:
هويّتي أنت مهما العصر (دبلجني)// و(أتْمت) الصمت تدجيني وحوسبتي
فمــــا تصحـــّرتُ إلا كنــــــــتِ لـــــي شجـــرًا// وما تعولمتُ إلا كنتِ خصخصتــي
وبعد، فإنّ نجمة العالم في الثامن عشر من كل عام تلمع في كلّ أيام العام، وتضيء سماء أهلها وخاصّتها في بلدانهم وفي العالم كلّه، وهي لا تحتاج منهم أكثر من شعور حقيقي بالاعتزاز بها والانتماء إليها، والحرص على التحدّث، والتخاطب، والتراسل بها، والحب والتقدير لحروفها، ولأصواتها، ولألفاظها، ولتراكيبها، ولمعاجمها، ولنحوها، ولصرفها، ولبيانها، ولبديعها، ولمعانيها، ولعروضها، ولإرث الأدباء، والنّحاة، والشعراء، واللغويين، والفخر والزهو بمنجزهم، وبامتداده في أبنائها من بعدهم، عبر أجيال وأجيال، وصولًا إلى عربية موحِّدة جامعة، تحمل العلوم الحديثة، لتخدمها تلك العلوم بدورها، وتصونها التشريعات والقوانين الناظمة للتعامل بها؛ فتحفظ لغة الدين، والحضارة، والتاريخ، والهويّة، والقوميّة، لغة ماضينا، وحاضرنا، ومستقبلنا، لعلّنا حينئذ نخمد بركان الأسئلة في نفوسنا، ونزيل الغباش عن مرايانا، ونعدّل اتجاه البوصلة.