باتت مدينة جنين ومخيمها اليوم تشكل قلق حقيقي للكيان الصهيوني, وبدأ الكيان الغاصب والعالم أجمع يطرح تساؤلات من نوع: لماذا مدينة جنين بالذات؟ والملفت للنظر أن الاختراقات الأمنية تحصل داخل العمق الإسرائيلي في الوقت الذي فيه جهاز الأمن الإسرائيلية يدّعي انه من أفضل أجهزة العالم دقة, ومع ذلك نجد أن جهاز الأمن الإسرائيلي اليوم قلق من انتشار ثقافة (الاختراق) الأمني تجاه المجتمع الإسرائيلية من قبل شباب مقاومة الاحتلال.
أن جهاز الأمن الإسرائيلية وباستمرار يعمل على تطمين المواطنين الإسرائيليين بأن الامور منضبطة وتحت السيطرة, في الوقت الذي تحصل فيه بين الفينة والاخرى عمليات نوعية في الداخل تؤكد للشعب الإسرائيلي أن (الاختراق) الأمني قد يحصل في أي لحظة, وللإجابة على التساؤل المطروح, لماذا مدينة جنين بالذات؟ علينا أن نقف على بعض الحقائق ذات العلاقة.
قبل كل شيء, هناك جملة من الأسباب جعلت من مدينة جنين وما حولها مصنعاً لشباب المقاومة المحترفين, وجنين هي واحدة من مدن فلسطين المحتلة, إلا انها أخذت طابعاً نضالياً ميزها عن غيرها من مدن فلسطين المحتلة, كيف لا ولغة الارقام في هذه الشأن واضحة وضوح الشمس, لكن في نفس الوقت لا احد يستطيع أن ينكر دور شباب باقي مدن فلسطين وعلى رأسها مدينة غزة في النضال والتضحيات وعلى مدار الـ(70) عاماً الماضية.
ويبقى السؤال القائم, لماذا مدينة جنين بالذات؟
إذا ما فتحنا صفحات تاريخ الاحتلال, فأننا سنكون أمام ثلاث حقائق دامغة شهدتها أرض فلسطين ومعروفة لدى الجميع, فالحقيقة الأولى هي أن الانتداب البريطاني على فلسطين كسلطة حكمت فلسطين لمدة 28 عام ابتداء من عام 1920م إلى عام 1948م وبالحدود التي قررتها بريطانيا وفرنسا بعد تفكيك الامبراطورية العثمانية.. كان ذلك في الشمال الغربي من فلسطين, أي أنه كان محاذيا لسهل مرج بني عامر والذي كان يسكنه (عشائر عرب التركمان الثمانية), والقريب من منطقة (جنين), اما الحقيقة الثانية فهي تتعلق بهجرة الصهاينة إلى فلسطين منذُ عام 1932م وما قبل ذلك, وكان ذلك أيضا يتركز في الشمال الغربي من فلسطين, أي محاذيا لسهل مرج بني عامر, وقريبا من منطقة (جنين).
وهذا بالضرورة يعني أن الشمال الغربي من فلسطين كان مسرحا للانتداب البريطاني, وللهجرة الصهيونية وذلك لأسباب ربما كانت استراتيجية من وجهة نظر كل من الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية آنذاك, الأمر جعل وقتها مناطق كل من سهل مرج بني عامر و(جنين) الأكثر سخونة والأكثر ردوداً للأفعال عن غيرها من مناطق فلسطين, مع اننا هنا لا نقلل من سخونة وردود الافعال لدى باقي مناطق فلسطين الاخرى وقطاع غزة ودون أية استثناءات تذكر.
يشير التاريخ أن منطقة سهل مرج بني عامر والذي كان يسكنه (عشائر عرب التركمان الثمانية) كان مركزاً قوياً تجمعت فيه جميع قوى ردود الفعل الفلسطيني والناتجة عن تسليم الانتداب البريطاني أجزاء كبيرة من ارض شمال غرب فلسطين للمهاجرين الصهاينة, وقد تمخض عن ذلك ردود فعل قوية أدّت إلى قيام عدة ثورات كان على رأسها ثورة فلسطين 1936م والتي كان من ابرز قادتها شباب من سهل مرج بني عامر، والتي عرفت فيما بعد بأنها الثورة الكبرى، وهي انتفاضة وطنية قام بها العرب الفلسطينيون في فلسطين ضد الإدارة البريطانية والمطالبة بالاستقلال, ومنع هجرة الصهاينة المتكررة إلى فلسطين.
ونتيجة حتمية لسياسات التهجير المتكررة التي تبناها الانتداب البريطاني اولاً, وتبنتها الحركة الصهيونية ثانياً, فقد دفع كثير من سكان سهل مرج بني عامر وما حوله وتحت الضغط النفسي للتوجه شرقاً والاستقرار في مدينة جنين وما حولها من قرى ومخيمات وذلك لقرب منطقة جنين من السهل واعتبارها امتداد جغرافي لسهل بني عامر, ومن هنا فقد بدأت تتشكل لدى المواطنين هناك في مدينة جنين ثقافة المقاومة لدى هذا النسيج الفلسطيني المميز, ومع مرور الزمن فقد تُرجمت مثل هذه الثقافة إلى كوادر مدربة امتدت واتسعت دائرتها لتشكل حركات مقاومة فلسطينية فردية.
أن تواجد الانتداب البريطاني, والحركة الصهيونية في المناطق القريبة من سهل مرج بني عامر ومدينة جنين, ابتداء من عام 1920م وما قبل ذلك شكّل لدى شباب مدينة جنين بالذات أرث ثقافي لمقاومة الاحتلال الصهيوني بصور ربما يكون طابعها فردياً, كما هو الحال لدى باقي شباب مدن فلسطين, وأن مدينة جنين بإرثها القديم والمقاوم للاحتلال أفرزت شباب لديهم دوافع فردية لمقاومة الاحتلال الصهيوني, شباب في غالب الأمر لا ينتمون لأي تنظيمات أو أحزاب سياسية.
وبعد..
القلق الحقيقي للكيان الصهيوني من هذه العمليات الفردية في العمق الصهيوني ناتجة عن الإرث الثقافي للمقاومة في مدينة جنين ومخيمها الواعد.