وبينما قادت الموجة الأولى إلى أشكال واسعة من «الإسلام السياسي» ومعه جاء العنف والحروب؛ فإن الموجة الثانية قدمت تحدياً للجماعات المتشحة برداء الإسلام، سواء في الداخل من قطاعات سكانية أو عبر الحدود من دول إقليمية. كلتا الموجتين استهدفتا تحقيق التغيير، حيث لم يعد ممكناً استمرار الأمر الواقع، والذي بات يعاني من الجمود، وتجاوز التطورات العالمية لما فيه من سكون. ما غاب عن الموجتين كان موجة ثالثة حينما أطلقت الدول العربية التي تمكنت من الصمود في وجه عاصفة الربيع العربي عمليات إصلاح واسعة النطاق برؤى وضعت عام 2030 هدفاً لتحقيقها. وما يعنيه هذا، في النهاية، هو أن الدول العربية التي اختارت الإصلاح الشامل قد وضعت أقدامها على بداية طريق القرن الحادي والعشرين وتقنيات وصناعات وعلوم هذا القرن. ويسير مسار الإصلاح الشامل في عدد من الدول العربية، ليس بنفس الطريقة أو وفق نهج أو آيديولوجية واحدة، بل في إطار السياق التاريخي الخاص بكل دولة. وسواء في المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي، أو في مصر والأردن والمغرب وتونس، فقد رأينا، في السنوات الأخيرة، عمليات إصلاح واسعة النطاق، تختلف في تفاصيلها من بلد إلى آخر. ومع ذلك، فقد اتحدوا بحقيقة أنهم اتخذوا جميعاً كنقطة انطلاق تغييرات اقتصادية جذرية تهدف إلى جعل الدولة العربية شبيهة بنماذج الدول الناشئة التي حققت مثل هذا التقدم السريع خلال العقود الأربعة الماضية.
في الأساس، كان هناك مسار للإصلاح يسعى إلى تحفيز الاقتصاد من خلال الاستثمار المكثف في البنية التحتية والتنمية الحضرية، وفي تحديث القطاعات الصناعية والتكنولوجية في البلاد مع تحقيق الحماية الاجتماعية في آنٍ واحد.
إن «شمولية» هذا النهج للإصلاح لم تأتِ بمفاهيم معينة تنادي بها المؤسسات الغربية، حيث الحديث الليبرالي غالب ومنفصل عن الواقع السياسي للمنطقة. من ناحية أخرى، فإن الشمولية تشمل جميع الفئات الاجتماعية والدينية وجميع المناطق الجغرافية وسكانها. وبينما تتجه المملكة العربية السعودية على سبيل المثال بشكل متزايد نحو البحر الأحمر، ليس فقط من خلال مشروع مدينة نيوم الطموح، ولكن أيضاً من خلال التوسعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمتد على طول الساحل الغربي بأكمله للمملكة. في مصر، هناك تحول مماثل «من النهر إلى البحر»، حيث امتدت عمليات التنمية إلى ساحل البحر الأحمر وسيناء والساحل الشمالي بأكمله من طابا إلى السلوم. في كلا الحالتين السعودية والمصرية، يفتح التطور الطريق أمام زيادة الاختراق الجغرافي، والانتشار الديمغرافي، وبالتالي اكتشاف كميات لا حصر لها من الموارد غير المستغلة. وباختصار بات هناك طريق ثالث وليس طريقين فقط يفتح الباب لعمليات تهدئة واسعة النطاق انطلاقاً من «بيان العلا»، الذي فتح الطريق للتهدئة واستعادة العلاقات مع قطر وتركيا، ومباركة المبادرة العراقية المصرية الأردنية لما سماه رئيس الوزراء العراقي مصطفي الكاظمي «الشام الجديد»، وفتح الطريق لاتجاه المصالحات الإقليمية. ومن جانب آخر بات ممكناً من خلال النافذة الأردنية فتح الطريق إلى دمشق، حيث توجد أكثر الأزمات الناجمة عن «الربيع العربي» قسوة. ومع هذا التوجه نحو البحث عن حلول إقليمية للمشاكل الإقليمية، فإن اتجاه السلام مع إسرائيل أخذ اتجاهين كلاهما له طبيعة اقتصادية تصدق مؤشراً على توجهات المرحلة المقبلة. فهناك اتفاق منتدى الغاز لشرق البحر المتوسط الذي يضم سبع دول من بينها فلسطين وإسرائيل والأردن ومصر، والاتفاق الإبراهيمي للسلام بين الإمارات والبحرين والسودان والمغرب من ناحية، وإسرائيل من ناحية أخرى. وأخذاً لتلك الاتجاهات كلها في الاعتبار، فإنها تشير إلى أن الشرق الأوسط رتب بدوره لمرحلة ما بعد الخروج الأميركي من خلال الإصلاح الداخلي أولاً، واختراق بيئة العنف الإقليمي من خلال اتجاهات تعاونية ثانياً.
هذا التوجه القادم من داخل المنطقة أعطى الدول العربية الناجية من غدر الربيع العربي إلى تحقيق التغيير الجذري المطلوب من ناحية، وتحقيق التكيف الإقليمي وإعطاء المرونة الكافية للتعامل مع التغيرات الاستراتيجية الناجمة عن الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، وما يمكن أن يترتب عليه من اختلالات استراتيجية من ناحية أخرى. هذا الطريق لا يزال مفتوحاً لكثير من الجهود والاستثمارات الاقتصادية والسياسية التي تجعل تحقيق الاستقرار الإقليمي ممكناً.
فليس غائباً عن الذهن وجود قوى تحاول إخراج الدول العربية المعنية عن الطريق الذي اختارته كما حاول حزب النهضة الإخواني في تونس على سبيل المثال، والاضطراب الجاري في السودان كما ذكرنا في هذا المقام من قبل في مقال عن «الأزمات الإقليمية» الجديدة. إن هذا الاختيار الثالث يتوقف استمراره على مدى المضي في تعميق عملية الإصلاح وبناء عناصر القوة الذاتية من ناحية، والجهد الدؤوب لتحقيق الاستقرار الإقليمي القائم على الدولة الوطنية من ناحية أخرى.