لا أكثر من حاجتنا إلى إعادة التفكير بشجاعة في بعض مسلماتنا حتى لو سرنا بطريق وعرة. واحدة من القضايا الفكرية الملتبسة في فضائنا العربي السياسي والثقافي عدم التفرقة بين «الأمة» وبين «الشعب» في المعالجات السياسية والفكرية والعملية. الأمة هي صورة الجماعة عبر الزمن، والشعب هو صورة الجماعة عبر المكان، ولأن المجتمع الدولي قد تطور ليعترف من خلال نصوص وممارسات بالشعب «الوطن»، أي المكان الجغرافي المحدد ولا يعترف بالأمة؛ لأنها مفهوم عبر زمن، وقد تغير الزمن كلياً؛ لذا أصبح الفكر السياسي العربي الحديث في مأزق، لا يعرف أحد كيف يخرج منه؛ لأن ذلك الالتباس أنتج عدداً ضخماً من الأزمات وما زال يفعل. فالحركات القومية عبر الأوطان قد انتهت ولفظت أنفاسها عالمياً مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقد كانت بداية التخلص من الفكرة قبل ذلك الزمن، كما أن الأفكار الأممية ماتت مع الصدام الذي واجهته الحركات الوطنية في المعسكر الاشتراكي مع السلطة وأتُون التسلط المركزي، والذي أدى في النهاية إلى سقوط الاتحاد السوفياتي وتخليه تدريجياً عن الفكرة الأممية.
العرب تبنوا فكرة القومية وفي الوقت نفسه الأممية في الوقت الخاطئ، وعلقت بهم تلك الأفكار مع الحرب العالمية الأولى وما زالت ذيولها تفعل فعلها، لسببين الأول تقليد الفكرة القومية في الغرب والآخر سقوط الخلافة العثمانية، وظنت بعض قواهم السياسية أنها على الطريق الصحيحة لفترة طويلة، إلا أن النتيجة أصبحت واضحة لمن رفعت عن عينيه الغشاوة، فلا القومية العربية بنكهاتها المختلفة (البعث الناصرية وغيرها) قد أنجزت ما كان أصحابها يأملون، ليس بسبب نقص في الإرادة، بل بسبب خطأ الفكرة تاريخياً، ولا الأممية (الإخوان المسلمون) أو الصيغة الأخيرة التي تروج لها النخبة الحاكمة في إيران (وحدة المذهب) بقادرة على تقديم حلول واقعية لما تواجه الشعوب من مشكلات؛ لأنها لم تستطع أن تفرق بين صورة الأمة المتخيلة وغير الواقعية في هذا العصر، ومطالب وآمال الجماعات المنضوية تحت علم واحد في بقعة جغرافية واحدة (الوطن)، ولم يتنبه إلى أن الفكرتين خارجتان عن العصر ومسيرة التاريخ، ومما زاد الأمر التباساً أن النخب الحاكمة لم تلتفت إلى أهمية بناء المؤسسات التي تؤمّن رسواً آمناً على قاعدة قوانين حديثة للدولة الوطنية والتي كانت تحتاج إلى عمل جدي لصهر مكوناتها العرقية والدينية والمذهبية والطائفية والقبلية والإثنية، بل خلطت شعاراتها هي أيضاً بين «القومي والأممي»؛ هرباً من الاستحقاق الوطني لزيادة الجرعة للهوية الوطنية عن طريق بناء مؤسسات حديثة ونظام رشيد، هذا الغموض المفاهيمي نتيجة ترسب كثيف في الثقافة المسيطرة، وفي أغلبها ثقافة الإنكار والقفز على الواقع.
يستطيع المتابع لهذه المسيرة العسيرة أن يسرد عدداً وافراً من تاريخ الشرق الأوسط العربي الحديث وفي الجوار الذي قام ويقوم أهل السلطة فيه بتبني أو تغذية تلك الأفكار «قومية أو أممية» عابرة للأوطان، ويترك في إثره الخراب والقتل والإفلاس الذي حل بعدد من الدول بسبب تلك الأفكار الخارجة عن العصر. هذا الداء الذي وصفت يمارسه النظام الإيراني اليوم من خلال أذرعته المنتشرة في الجوار، ويدفعها إلى الإعلان عن ازدراء الوطن ملتحقة بالتبعية له والاشتباك المسلح أو السياسي بالمكونات الوطنية الأخرى ويغذيها بالمال والسلاح طلباً لذلك السراب الذي يمكن أن يتخيل، ولكن يستحيل الوصول إليه، وتدفع الشعوب تكاليف عالية تتحملها إلى حد الجوع والموت، كما يحدث اليوم في لبنان أو اليمن أو العراق، ويراد إلى ذلك السيناريو أن يتوسع من خلال الاستفادة من كل شق أو اخلاف في الساحات الوطنية أو العربية بين الجيران.
الأمر ليس بتلك السهولة للتغلب على تلك المفاهيم أو تغيرها، حيث رسخت لدى عدد واسع من الشرائح من دون توقف لنقد نتائجها الكارثية. فقط تصفح أي منهج تقوم مدارسنا بتدريسه وتحفيظه للطلاب سوف تجد غزو تلك المفاهيم والتباسها في معظم المناهج، ويتشتت الولاء الوطني بين محلي وإقليمي، بل وحتى عنصري. ربما الخروج من هذا المأزق الذي نحن فيه هو الانفتاح على تغيير تلك المفاهيم في فضائنا الثقافي، وأولى خطوات التغير النظر إلى المكان الذي يحتضن الدولة الحديثة هو في الغالب آخر مكان تنظر إليه معظم السلط القائمة ودراسة تكوين الهوية الوطنية الجامعة، وتلك لها أدوات أصبحت معروفة كما النظر إلى مناهج التعليم، والتي توفر أرضاً خصبة حتى اليوم لنمو وتوسع تلك الأفكار «الشمولية»، وعند الحديث عن المناهج هي ليست المدونة في الكتب المدرسية، بل هي المعلم وتدريبه، وهي منبر الجامع وهي شاشة التلفاز وأيضاً وسائل التواصل الاجتماعي التي تمتلئ اليوم بالغث والضار. لعل الأمل أن ينشأ حوار بين المهتمين لزيارة نقدية لتك المفاهيم؛ لأن في ذلك مصلحة جُلا لشعوب المنطقة.
آخر الكلام:
من الطبيعي أن تتعاون الدول بين بعضها لتعظيم المنافع المشتركة، أما الإلحاق فينتج المقاومة.