وكان ذلك «الربيع العربي» الذي كان بمثابة عواصف هائلة مدمرة قد أطاح بخمسة أنظمة، كما هو معروف، هي بالإضافة إلى نظام الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، نظام الرئيس المصري محمد حسني مبارك، ونظام معمر القذافي، صاحب الجماهيرية الليبية، وأيضاً نظام علي عبد الله صالح، ولاحقاً في عام 2019 نظام عمر البشير، والمعروف أنه قد ساد هتافٌ، في تلك الفترة في العديد من الدول العربية هو: «الشعب يريد إسقاط النظام».
والمعروف أنّ احتجاجات «الربيع العربي» هذه مرّت بالعديد من الدول العربية وأثّرت عليها بدون أنْ تسقطها، من بينها الأردن، والجزائر، والعراق، الذي ما لبث أنْ شبع سقوطاً، وكانت النهاية هي هذه الأوضاع المأساوية، التي لا تسرُّ الصديق ولا تغيظ العدا، كما يقال، وأيضاً موريتانيا وحتى فلسطين!
وبالطبع، فإنّ هذا «الربيع العربي» الزمهريري قد زار سوريا، القطر العربي السوري، زيارة عاصفة، لكن استنجاد نظام بشار الأسد بالروس وبالإيرانيين وبالقمع الطائفي والمذهبي الدموي تركه في هذه الحالة البائسة وترك «القطر العربي السوري» ممزقاً وتتناهشه احتلالات كثيرة من الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان إلى توغّلِ تركيا رجب طيب إردوغان في الأراضي السورية، إلى كلِّ هذه الاحتلالات التي تتقاسم أجزاء متعدّدة من شرق هذا البلد، الذي كان يعتبر قلب العروبة النابض، والتي من بينها احتلال «داعش»، واحتلال حزب العمال الكردستاني التركي، واحتلال «الأصدقاء الروس»... وحقيقة وكل ما هبَّ ودب!
إنّ المقصود في هذا كله هو أنّ هذا «الربيع العربي» لم يكنْ عربياً، وأنه قد بدأ «إخوانياً» وأنّ «الإخوان المسلمين» كانوا قد سيطروا باسم هذا الربيع البائس على مصر أرض الكنانة، وحيث أصبح زعيمهم محمد مرسي عيسى العيّاط رئيساً لأكبر دولة عربية، وكان منْ الممكن أنْ يبقى النظام الإخواني حتى الآن لو لم يثُر الشعب المصري يسانده الجيش عام 2013 وتنتهي الأمور إلى ما هو عليه واقع الحال.
لقد كانت أولُّ ثورة لما سميّ «الربيع العربي» في تونس، حيث إنه بعد فترة انتقالية من حكم زين العابدين بن علي، رحمه الله، سيطر «الإخوان المسلمون» على الحكم في هذا البلد، الذي كان على رأسه الحبيب بورقيبة ولسنواتٍ طويلة، وتوصف هذه المرحلة الإخوانية بأنها الأسوأ في تاريخ هذه البلاد منذ استقلالها في عام 1956، وهي المرحلة التي قالت عنها وكررت قولها رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي لمرات متعدّدة وكثيرة بأنه لإنقاذ هذه البلاد لا بدَّ من إزاحة «الإخوان» من مواقع القرار.
ولعلَّ ما تجدر الإشارة إليه على هذا الصعيد هو أنّ «إخوان» الأردن الذين بقوا بمثابة «الطفل المُدلّل» على مدى سنواتٍ طويلة، أي منذ عام 1945 وحتى فترة قريبة، ما لبثوا هم أيضاً أنْ شربوا «حليب السباع» بعد أنْ سيطر إخوانهم على الأوضاع في مصر وحاولوا أنْ ينتقلوا من حزب الدولة إلى دولة الحزب، فكان أنْ تمَّ التصدّي لهم بكل قوة وإلى حدِّ أنّ العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني قد وصفهم بأنهم تنظيمٌ إرهابي وأنهم مُنعوا من أي أنشطة سياسية وأنه قد تمَّ الاعتراف ببديلٍ لهم قد خرج من أطرهم ومن بين صفوفهم.
إنّ «الإخوان المسلمين» بصورة عامة ما عادوا يعملون من خلال اسمهم التاريخي الأول الذي كان في عهد مؤسّسهم حسن البنا وأنهم بعد أنْ «اخترعوا» ما سمّوه «الربيع العربي» واستغلّوه حتى النهاية قد تخلّوا عنه وأصبحوا باستثناء «إخوان الكويت» يعملون بأسماء مختلفة ومتعددة وأنهم انتهوا إلى أنْ يكون «مرشدهم» هو الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وأنّ حليفهم «الآمر الناهي» هو إيران الخامنئية، وإنّ مشكلة هؤلاء أنهم لمْ يدركوا أنّ حركة التاريخ قد غيّرت أشياء كثيرة وأنّ أحزاب وحركات القرن العشرين لم تعدْ تصلح للقرن الحادي والعشرين، وإنّ تمسّكهم باسمهم «الإخواني» يشبه تمسّكِ بشار الأسد بحزب «البعث» الذي انتهى نهاية مأساوية منذ انقلاب والده حافظ الأسد على رفاقه في عام 1970، ثم وبالنسبة لجناحه العراقي بعد انهيار نظام صدام حسين في عام 2003، فإن هناك محاولات لإنعاشه مثلما جرى في فترة سابقة، لكن أغلب الظن أنّ هذه المحاولات لن تكون ناجحة ما دامت الأوضاع في هذه المنطقة هي هذه الأوضاع الحالية.
لقد كان من الأفضل لهؤلاء، أي «الإخوان» الذين تخلوا عن اسمهم هذا واستبدلوا به حسب أقطارهم وبلدانهم أسماء أخرى لا علاقة بينها ولا يجمعها جامعٌ مما يعني أن التحاقها بإيران وتركيا سيكون بمثابة قفزة سياسية وتنظيمية قاتلة وحقيقية، بدل كل هذا التلطّي في جدران هذين البلدين اللذين كل منهما يُغنّي على ليلاه وله ألفُ ثأرٍ مع العرب كأمة خالدة بالفعل... كان من الأفضل لهم أنْ يتحولوا فعلياً إلى تنظيمات وطنية (قُطرية) تتخذ الاتجاه الصحيح وتعمل لمصلحة شعوبها.
وعليه، وفي النهاية، فإنه على ما بقي من «الإخوان المسلمين» ألا يبقوا يناطحون مستجدات حركة التاريخ؛ إذْ وكما أنهم وجدوا قبل مائة عام أنهم أمام لحظة تاريخية استغلّوها أسوأ استغلال، وبخاصة أن دولة الخلافة العثمانية قد انتهت وأنّ مصطفى كمال (أتاتورك) قد حلَّ محلّها بـ«علمانية»؛ فإنهم بعد هذه المائة عام عليهم أنْ ينبذوا تجربتهم السيئة هذه التي مضت بشرها، وأنْ يدركوا أنّ تنظيماً كونياً لم يعد يلائم هذه المرحلة التاريخية التي قد بدأت مع بدايات القرن الواحد والعشرين، وأنّ هذا القرن «يستدعي» تنظيمات وأحزاباً قُطرية ومحلية قادرة على حلِّ إشكالات هذه المرحلة الجديدة التي تختلف اختلافاً جذرياً عن مرحلة سابقة تختلف متطلباتها عن متطلبات هذه المرحلة.