|
|
لحديث العدل شجون. ولأوجاع الظلم شؤون. وما بينهما، حديث لا ينقطع عند الناس. وفيه، أنّ هارون الرشيد والعباس خرجا ليلاً لزيارة الفضيل بن عياض، فلما وصلا إلى بابه وجداه يتلو هذه الآية: (أم حَسِبَ الذين إجتَرحوُا السيئَات أن نجَعلُهُم كالذِينَ آمنَوُا وعَمِلوُا الصَالِحاتِ)، ومعناها: أيظن الذين اكتسبوا الخطايا ويعملون الأعمال المذمومة أن نسوي بينهم في الآخرة وبين الذين يعملون الخيرات وهم مؤمنون. كلا ساء ما يحكمون. فقال هارون: إن كنا جئنا للموعظة فكفى بهذه موعظة. ثم أمر العباس أن يطرق عليه الباب فطرق بابه فقال: افتح الباب لأمير المؤمنين. فقال الفضيل: ما يصنع عندي أمير المؤمنين فقال: أطِع أمير المؤمنين وافتح الباب. وكان ليلاً والمصباح يتقد فأطفأه وفتح الباب فدخل الرشيد وجعل يَطوف بيده ليصافح بها الفضيل فلما وقعت يده عليه قال: الويل لهذه اليد الناعمة إن لم تنج من العذاب في القيامة.
ثم قال له: يا أمير المؤمنين استعد لجواب الله تعالى فانه يوقفك مع كل واحد مسلم على حدة يطلب منك إنصافك إياه. فبكى هارون الرشيد بكاء شديداً وضمه إلى صدره. فقال له العباس: مهلاً فقد قتلته. فقال الرشيد للعباس: ما جعلك هامان إلا وجعلني فرعون. ثم وضع الرشيد بين يديه ألف دينار وقال له: هذه من وجه حلال من صداق أمي وميراثها. فقال له الفضيل: أنا آمرك أن ترفع يديك عما فيها وتعود إلى خالقك وأنت تلقيه إليّ. فلم يقبلها وخرج من عنده. وفي حكاية أخرى، سأل عمر بن عبد العزيز محمد بن كعب القرظي فقال: صف لي العدل. فقال: كل مسلم أكبر منك سناً فكن له ولداً ومن كان أصغر منك فكن له أباً ومن كان مثلك فكن له أخاً وعاقب كل مجرم على قدر جرمه وإياك أن تضرب مسلماً سوطاً واحداً على حقد منك فإن ذلك يصيرك إلى النار. وقيل: حضر أحد الزهاد بين يدي خليفة فقال له: عظني فقال: يا أمير المؤمنين إني سافرت الصين وكان ملك الصين قد أصابه الصمم وذهب سمعه فسمعته يقول يوماً وهو يبكي: والله ما أبكي لزوال سمعي وإنما أبكي لمظلوم يقف ببابي يستغيث فلا أسمع استغاثته ولكن الشكر لله إذ بصري سالم. وأمر منادياً ينادي ألا كل من كانت له ظلامة فليلبس ثوباً أحمر. فكان يركب الفيل فكل من رأى عليه ثوباً أحمر دعاه واستمع شكواه وأنصفه من خصمائه. فانظر يا أمير المؤمنين إلى شفقة ذلك الكافر على عباد الله وأنت مؤمن من أهل بيت النبوة فأنظر كيف تريد أن تكون شفقتك على رعيتك. وقيل:حضر أبو قلابة مجلس عمر بن عبد العزيز فقال له: عظني قال: من عهد آدم إلى وقتنا هذا لم يبق خليفة سواك. فقال: زدني. فقال: أنت أول خليفة يموت. فقال: زدني. فقال: إن كان الله معك فممن تخاف وإن لم يكن معك فإلى من تلتجىء. قال: حسبي ما قلت. وروي أيضا: كان سليمان بن عبد الملك خليفة فتفكر يوماً وقال: قد تنعمت في الدنيا طويلاً فكيف حالي في الآخرة وأتى إلى أبي حازم وكان عالم أهل زمانه وزاهد أوانه وقال: أنفذ لي شيئاً من قوتك الذي تفطر عليه. فأنفذ له قليلاً من نخالة وقد شواها فقال: هذا فطوري. فلما رأي سليمان ذلك أفطر الليلة الثالثة على تلك النخالة المشوية فيقال إنه في تلك الليلة تغشى أهله فكان منها عبد العزيز وجاء منه عمر بن عبد العزيز. وكان واحد زمانه في عدله وإنصافه وزهده وإحسانه وكان على طريقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقيل أن ذلك ببركة نيته وصيامه وأكله من ذلك الطعام. وسُئل عمر بن عبد العزيز: ما كان سبب توبتك قال: كنت أضرب يوماً غلاماً فقال لي: اذكر الليلة التي تكون صبيحتها القيامة فعمل ذلك الكلام في قلبي. ورأى بعض الأكابر هارون الرشيد في عرفات وهو حافٍ حاسر قائم على الرمضاء الحارة وقد رفع يديه وهو يقول: إلهي أنت أنت وأنا أنا الذي دأبي كل يوم أعود إلى عصيانك ودأبك أن تعود إليّ برحمتك. فقال بعض الكبراء: انظروا إلى تضرع جبار الأرض بين يديّ جبار السماء. وسأل عمر بن عبد العزيز يوماً أبي حازم الموعظة فقال له أبو حازم: إذا نمت فضع الموت تحت رأسك وكل ما أحببت أن يأتيك الموت وأنت عليه مصرّ فالزمه وكل مال تريد أن يأتيك الموت وأنت عليه فاجتنبه فربما كان الموت منك قريباً. وسيبقى حديث العدل والوعاظ والحكام مستمرّ أبد الدهر، وعند كلّ الشعوب والأمم، ولكن بدرجات متفاوتة. وستبقى الرجاءات كلها، وخصوصا عند البسطاء، معقودة على العدل، الذي قيل أنّه أساس المُلك، ولهذا يستعيد الناس حكايات العدل جيلا بعد جيل. . |