لم يكن أحد يتصور أن الصبية التي اقتحمت أروقة الفندق الطرابلسي بوجهها الذي تبدو عليه آثار كدمات، وبعينيها الدامعتين، سوف ترمي في وجوه الجميع مأساة سيتناقلها الإعلام لأسابيع، وربما لأشهر وسنوات.
تلك كانت إيمان العبيدي، التي روت للصحافيين الأجانب كيف أن 15 رجلا من مرتزقة العقيد معمر القذافي، اختطفوها واغتصبوها جميعهم على مدار يومين.
القهر وغصة القلب والألم كان يتدفق من كلماتها، وهي تشرح كيف أن الرجال كانوا متسترين بثياب مدنية، وأنها لم تعرف في البداية مقصدهم، غير أن أنيابهم سرعان ما نشبت، لتنهش لحمها وروحها.
إيمان الليبية، كان بمقدورها الصمت والصبر على بلواها، خصوصا أنها تعيش في مجتمع محكوم بعادات وأعراف قبلية نادرا ما تتجاوز مسائل الشرف والأعراض، غير أنها لم تستطع أن تكون مثل غيرها ممن ارتكبت بحقهن الجرائم والجنايات، ولجأن إلى الصمت بدواعي الشرف، بل اختارت المواجهة مع نظام ديكتاتور دموي، من دون أن تحسب أي حساب للعواقب، فقد كانت تحارب الظلم والاستبداد والاستباحة.
ذنب إيمان الوحيد، ربما، كان أنها تنتمي إلى مدينة بنغازي الليبية، وهي المدينة التي انطلقت منها شرارة الانتفاضة ضد نظام الديكتاتور القذافي، لتنتقل منها إلى جميع المدن الليبية، متحولة إلى حرب تحررية ضد الظلم والفاشية.
ذنبها أنها ابنة بنغازي التي رفضت الانصياع لملك ملوك افريقيا الذي اغتصب ليبيا لأكثر من 40 عاما.. تماما كما اغتصبت هي.
هول المأساة التي تعرضت لها إيمان لا يمكن تجاوزه حتى لو تم إعدام كل مرتزقة القذافي، فهناك ألم وقهر وعذاب في الوجدان، وهناك جروح ترسبت في جوانية الذات، ومن غير اليسير أن يغيب المشهد الإجرامي الذي ارتكب بحقها، عن خيالها ولو ليوم واحد.
مأساة إيمان لا تختلف كثيرا عن مأساة وطنها، ومثلما فاجأ الثوار الليبيون العالم بعزيمتهم الحديدية الراسمة للإطاحة بالديكتاتور، فاجأت إيمان العالم كذلك بشجاعتها وقدرتها على تحدي الظلم والطغيان والفاشية، وهي تواجه الصحافيين وعدساتهم وتروي قصتها، غير هيّابة لشيء، بل هدفها كان أن تكشف ما تستّر من جرائم ترتكب برعاية الطاغية، لتعرّيه أمام العالم.
لا شك أن حالة إيمان لم تكن الوحيدة وسط الظلم والجور والفوضى الدائرة في ليبيا اليوم، غير أن القصص الأخرى لم يتسنّ لنا الاطلاع عليها، بل ظلّت حبيسة صور صاحباتها اللواتي، ربما لا يجدنَ سوى الدموع رفيقا لهنّ من شقائهنّ وتعاستهنّ، فالقبضة القوية للاستبداد جعلت منهن خرساوات، كما أن العقلية القبلية ربما تتجاوز معاقبة المعتدي نحو محاكمة الضحية.
لكنّ ما رأيناه من والد إيمان ووالدتها، جعلنا نتأكد أن شجاعة هذه الفتاة الضحية، غيّرت كثيرا في العقلية السائدة هناك، إذ أعلن الأبوان تضامنهما الكامل مع ابتهما، لينفيا بالتالي سمة "الجنون" التي حاول نظام الديكتاتور إلصاقها بالضحية.
لقد اعتزّ الأبوان بشجاعة ابنتهما في الظهور العلني وكشف مأساتها أمام العالم، طالبين منها أن تثبت أمام الجلاد الذي كان يحتجزها في معتقلاته قبل أن يفرج عنها منذ أيام قليلة فقط.
إنها صورة تقدمية للعائلة وللمجتمع العربيين الذي يقف إلى جانب الضحية الأنثى في اختبار مفهوم آخر للشرف، غير ذلك المفهوم الذي ظلّ سائدا لقرون عديدة، ليصار إلى تفهّم أن المغتصبة ضحية تحتاج إلى كل الدعم المادي والنفسي، لا إلى محاكمات "بهلوانية" يطلق على أثرها النار على جسد الضحية من مسدس الوالد، بيد أخيها الذي لم يبلغ سنّ الرشد بعد.
إيمان؛ ها أنت تحطمين التابوهات وتفتتين بقوتك سلاسل وقيودا أحاطت بمن مثلك سنين طويلة. إنك تغيرين وجه تاريخ ملوث وتصنعين بطولات مسجلة باسمك فقط.