لقد جاء الاحتفال السنوي باليوم العالمي للعدالة الاجتماعية لهذا العام تحت عنوان: ( إنهاء الإتجار بالبشر وإنهاء ظواهر العمل القسري..)، ويدفعنا هذا العنوان إلى التساؤل: كم لدينا من أشكال إتجار بالبشر وكم لدينا من أشكال العمل القسري..؟! قد يقول البعض بأن هذا غير موجود في مجتمعنا، وأقول بأنه موجود بصور مختلفة مباشرة وغير مباشرة، فما تتعرّض له الكثير من الأيدي العاملة في الوطن من انتهاكات في حقوقها واستغلال بشع من بعض أصحاب العمل ومؤسساته، إضافة إلى التشغيل القسري للأطفال والنساء كل ذلك يصب في أشكال الاتجار بالبشر وانتهاك حق الإنسان، وهو ما يتناقض مع دستور الدولة وتشريعاتها، ولا بد من تصويبه، فالله سبحانه وتعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله، شهداء بالقسط، ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون.) "المائدة 8". ورسولنا الكريم يقول محذّراً: ( إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات عند الله يوم القيامة).
أما عن المحسوبيات والواسطات الظالمة التي تُهدر حقوق البعض لتمنحها لآخرين لا يستحقونها فحدّث ولا حرج، وكم من مسؤول في الدولة يتعاطى بالواسطة والمحسوبية على حساب الحق والعدل، وكم من سياسات وقرارات ومكرمات يتم تصميمها بطريقة لا تراعي العدالة بين الناس، وإنما تُميّز فئات على حساب أخرى، فهل من العدالة على سبيل المثال، أن يحظى خريجي ثانوية عامة حصل على معدل 85% بمقعد في كلية الهندسة ويدرس على حساب الدولة، في حين يُحرم خريج ثانوية آخر من هذا المقعد رغم حصوله على 95%، أما الفارق التمييزي بين الاثنين فهو مجال عمل الأب، وكلا الطالبين يتمتعان بالجنسية الأردنية الكاملة..!
وهل من العدالة أن يُنتهك حق العاملات في مراكز محو الأمية التي تُشرف عليها وزارة التربية والتعليم إشرافاً كاملاً، فلا تتقاضى المعلمة في هذه المراكز راتباً يعادل الحدّ الأدنى للأجور، بل ربما لا يزيد راتبها على نصف هذا الحد، والأنكى أنّ الآذنة العاملة في مراكز محو الأمية لا تزال تتقاضى (10) دنانير شهرياً فقط لاغير.!!!
وهل من العدالة أيضاً أن نسمح بتشغيل واستغلال 30 ألف طفل يعملون في مهن كثيرة في مؤسسات القطاع الخاص، ويتعرضون لأبشع استغلال وانتهاك لطفولتهم، دون حصولهم على حقوق وحماية..!!
وهل من العدالة أن يتعرض ما يزيد على (10) آلاف عامل وعاملة في يعملون في الخدمات الصحية المساندة في مجالات التنظيف والخدمة والتغذية وغيرها، لانتهاكات كثيرة في حقوقهم العمالية من إجازات وتأمين صحي واجتماعي وأجور غير عادلة، وتأخير في صرف رواتبهم، وساعات عمل طويلة وغيرها من الحقوق..؟!!
وهل من العدالة أن تعمل آلاف المعلمات في الكثير من المدارس الخاصة برواتب لا تتعدى نصف الحد الأدنى المقرر للأجور في المملكة، ويتم تشغيلهن فقط خلال الفصول الدراسية، وإنهاء خدماتهن خلال إجازتي الصيف والشتاء...!؟
وهل من العدالة أن لا يتم توزيع مكتسبات التنمية بالإنصاف بين الناس والمدن والمواقع، فمنْ يصدّق أن قرية صغيرة مثل "فلحا" الواقعة إلى الشرق من ذيبان بمحافظة مأدبا لم تطأها قدم مسؤول وفقاً لتقارير المركز الوطني لحقوق الإنسان، وربما لا يعلم أي مسؤول في الدولة أن هذه البلدة تفتقر لأبسط الخدمات وتعاني من فقر شديد، حيث يُضطر قاطنوها الفقراء لاستئجار سيارة بثلاثة دنانير لتأمين كيلو الخبز من أقرب بلدة إليهم لعدم وجود مخبز.. أما المركز الصحي المتواضع في البلدة فلا تداوم فيه سوى ممرّضة واحدة هي الطبيب والصيدلاني والمُمرّض وكل شيء..!! وكذلك الأمر في بلدة الشقيق إلى الغرب من ذيبان وتبعد عنها عشرة كيلومترات، ويقطنها (5) آلاف مواطن، وهي تكاد تكون مقطوعة عن العالم لعدم وجود أي واسطة نقل منتظمة من البلدة وإليها، وتعاني من فقر شديد وارتفاع معدلات الهجرة منها..! أما إذا انتقلنا إلى قرية "اللجّون" في محافظة الكرك ويقطنها أكثر من ألف مواطن، نُفاجأ بأن معظمهم يسكنون بيوت الشعر بلا ماء ولا كهرباء ويعانون من العزلة بسبب غياب وسائط النقل منها وإليها، وتعاني البلدة أيضاً من فقر شديد جداً ونسبة أميّة مرتفعة، وعلى الرغم من وجود مدرسة واحدة فيها فقط إلاّ أن المرء يستغرب ويُفاجأ بأنها تدمج بين الصفين السادس والسابع معاً في غرفة صفية واحدة بسبب عدم توفر غرف صفية كافية..!!
لن أتطرق إلى الكثير من ظواهر غياب العدالة الاجتماعية، فهي أكثر من أن تُحصى مع الأسف، لكنني أذكّر أخيراً بالمقولة الشهيرة لابن تيمية: (إن الله يقيم الدولة العادلة وإنْ كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإنْ كانت مسلمة، والدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام).