من ولدوا خلال حرب الألفي شهيد حتى الآن في غزَّة أكثر ممن رحلوا، ليس فقط لأن المرأة الفلسطينية ولود -كما يقول قارعو الأجراس الديمغرافية في إسرائيل- بل لأن ثنائية التحدي والاستجابة هي قانون البقاء في الفيزياء وجدلية الحياة والموت في التاريخ، لهذا ولد من كل تابوت مهد، وحمل الأطفال الجدد في هذه القيامة أسماء ستعاني منها إسرائيل في مستقبل لن يكون حليفاً لها بقدر ما هو كمين، لكنه حليف حميم وبامتياز لشعب قاوم بكل ما استطاع إليه سبيلا.
أطفال عديدون من مواليد غزة تحت القصف وفي ليل مُضاء بالقنابل وعيون الأطفال سجلت أسماؤهم في شهادات الميلاد وهي كلها من سلالة أبجدية خالدة القسام والمجاهد والشهيد والشاهد وهذه الأسماء بحد ذاتها وثائق لمن يريد أن يؤرِّخ لهذه المرحلة، إنها الحياة في ذروة تحديها للفناء والشمس في حربها الأبدية ضد الظلام فالطائرات لم تطرد العصافير وحتى الفراشات من سماء العالم، وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل كما قال الباقي محمود درويش، وليأذن لي أخي أن أضيف القنابل إلى السنابل في زمن ينقض فيه سرب غربان من الحديد على عصفور ولد للتو!
منذ احتلال فلسطين قبل أكثر من ستة عقود أنجب التزاوج المقدس بين التاريخ والجغرافيا سلالة من الأسماء من طراز بيسان وجنين وخليل وكرمل ويافا، فحمل الآباء وطنهم في داخلهم مثلما احتضنهم في ترابه وقد يكون هذا العدوان المدجج بكل أشكال الأسلحة قد ارتد على من أطلقوه، ففلسطين الآن أكثر حضوراً وتوهجاً في كل لغات العالم من أي وقت آخر، وها هي العوَّامة بعد كل ما لحق بها من تحريف وأمركة وأسرلة تتحول إلى فلسطنة، فأمريكا اللاتينية فلسطينية، قالت ذلك رئيسة البرازيل بدموعها ورئيسة الأرجنتين بالكوفية التي رفرفت على كتفيها وهي تقود مظاهرة جعلت كل عربي يشعر بالحرج!
في العام 1948 كان عدد الفلسطينيين الذين تشبثوا بالتراب مئة وعشرين ألفاً وهم الآن مليون وربع، والفلسطينيون الذين يبلغ تعدادهم الآن أحد عشر مليوناً سيصبحون عشرين وخمسين ومئة مليون في القادم من أيامهم. فأين سيذهب القاتل العاقر من ذرية القتيل؟
إن ما يدفع بعض اليهود الآن إلى إعلان العصيان على تعليم رب الجنود هو إدراكهم لهذه الحقيقة، فالفلسطينيون حقيقة فيزيائية بقدر ما هي تاريخية وجغرافية وثقافية، والإصرار على إنكارها هو بالضبط ما ستجني به براقش اليهودية على نفسها وأحفاد أحفادها!