توجد قناعة محلية بأن أسرع ما يمكن للحكومة أن تفعله ويضرب في عمق الأهداف الوطنية المطلوبة يتمثل في حركة منظمة وسريعة باتجاه اجتثاث جذور الفساد وتجفيف منابعه، وهي القناعة التي ترتطم مباشرة بمقولة الشبهات، وأن كرامات الناس ليست لعبة.
تكشف بعض المراجعات التي تجري عن حجم الخسائر المذهلة في بعض الوصفات الاقتصادية والاجتماعية التي قادت التنمية إلى سلسلة من الحلقات المفرغة، ومن دون نتيجة يلمسها الناس على الأرض أو ينتظرها المخططون في المستقبل القريب أو البعيد، الأمر الذي يعيد من جديد سؤال صناعة القرار وصناعة الأحلام والأوهام، وبالتالي صناعة الفساد.
فجأة، نكتشف فشل مسار طويل عريض من البرامج والمبادرات والمشاريع التي نفذت خلال السنوات الأخيرة تحت مظلة المشاريع الصغيرة، والمؤسسات التي أنشئت والبرامج التي أطلقت والعطاءات التي أحيلت في مجالات دراسات الجدوى والتمويل الصغير، فيما يتبخر كل شيء تحدثت عنه حملات التسويق الجذابة والنشرات والصور البراقة التي لم تفضِ إلى تحولات حقيقية نحو الأهداف التي جاءت من أجلها.
المشكلة الكبيرة التي نتعثر فيها كل مرة حينما نكتشف عدم جدوى خيارات معينة تبدو في غياب الخيط الفاصل بين شبهة الفساد وبين العوار والسوء الذي يصاحب عمليات صناعة القرارات، وهنا تكمن قصة صناعة الأوهام والفرق بين ما يمكن أن يكون وبين بيع الأحلام للمستقبل.
لم تطور الإدارة العامة الأردنية، رغم عراقتها وتراثها المؤسسي مقارنة مع الإقليم، إلى هذا الوقت أطرا مؤسسة لتجويد صناعة القرار، ورفع مستوى كفاءة عملية صناعات السياسات في المجالات الاقتصادية والتنموية التي تجعل دور السياسيين محصورا في عملية اتخاذ القرار وتحديد زمانه وظروفه.
المؤشرات التي أصدرتها وزارة التخطيط مؤخرا، وأظهرت حجم تراجع مكانة الأردن مقابل التقدم الطفيف في مؤشرات أخرى، تؤكد الحاجة إلى بناء وتطوير نماذج اقتصادية وسياسية وثقافية تلبي احتياجات دعم القرار في القضايا الوطنية، وصياغة وإصدار مؤشرات وطنية تنموية واقتصادية كلية وقطاعية يمكن من خلالها رصد الحركة التنموية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي، والتنبؤ بالأزمات الاقتصادية والسياسية وحتى الاجتماعية، ورصد مؤشراتها قبل وقوعها واقتراح سبل علاجها.
إن أحد مصادر فوضى التعامل مع الفساد أو الاتفاق على تعريف للفساد هو آلية تشكيل النخب الحكومية ونخب مؤسسات الدولة الأخرى، وسيادة منظور من القيم المشوهة في منظومات الولاء والانتماء والتي تجعل من الولاء للأفراد المعيار الأول الذي يتجاوز كل ما يعرف عن الانتماء للأوطان والكفاءة والجدارة والنزاهة، وبما يتجاوز حتى فوضى الولاءات التقليدية في أبعادها القرابية.
يبدو ذلك داخل المؤسسات وعلى هوامشها، في المقابل تغيب كل القيم الكبرى في تشكيل النخب في مسار بناء الدولة الوطنية، حيث تتحول عملية التحديث إلى موجات من العصف الذي لا يخلو من التدمير، حيث تعمل الفوضى على إزاحة البنى الاقتصادية التقليدية وتعجز عن إيجاد بدائل حقيقية وفاعلة مكانها، وتخلق ثنائيات جديدة تعصف هي الأخرى بالأوضاع والبنى الاجتماعية، ويضيع وسط هذه التحولات حتى المفهوم المشترك للفساد.
الحاجة إلى منظور جديد في بناء السياسات الاقتصادية الاجتماعية يحتاج في هذا الوقت الخروج من هواجس صناعة الأحلام والأوهام إلى المكاشفة والمراجعة إلى معايير واضحة لجودة الأداء الحكومي، والى حدود فاصلة بين الفساد وشبهة الفساد.