قد لا أكون مبالغا ان قلت، ان السياسة الأردنية الخارجية تتصف بالوضوح والالتزام والموضوعية والموثوقية، لذلك فقد استطاع الاردن أن يحافظ على علاقات موصولة مع كثير من الدول الكبرى، رغم مابين تلك الدول من تباين أو اختلاف، ومرد ذلك قناعة تلك الدول أن الموقف السياسي الأردني تحكمه قواعد موضوعية وأخلاقية وانسانية بالاعتبار الأول.
قد يؤثر على الموقف السياسي الأردني محددات بسبب الحجم والقوة الاقتصادية والبيئة الجيوسياسية، فهي تحد من خياراته السياسية وتضعف قدرته على التأثير، ولكن آثار هذه المحددات جميعا لاتدفعه الى مخالفة المبادئ الأساسية التي تحكم خياراته ومواقفه السياسية.
في أعقاب زيارة وزير خارجية الولايات المتحدة للأردن التي قام بها في ختام لقاءاته مع سياسيين من فلسطين واسرائيل، من أجل ابلاغ الأردن بالتطورات المتعلقة بالمفاوضات الجارية بين السلطة الوطنية الفلسطينية واسرائيل.تحاول جماعات وشخصيات ونشطاء سياسيون في الاردن استثمار تلك الزيارة لخلق شكوك لدى الشعب الاردني بالايهام بأن الدولة الأردنية، اما انها مقصرة في القيام بواجباتها لحماية مصالح الأردن والأردنيين، أو أنها متواطئة مع المتفاوضين لتوطين الفلسطينيين في الأردن والتنازل عن حق العودة للفلسطينيين، ويشارك في هذا الايهام سياسيون فلسطينيون لتبرير أي تقصير أو تساهل محتمل منهم في المفاوضات.
أعتقد أن الموقف الأردني السياسي، هو الأكثر وضوحا بين مواقف الدول العربية جميعا، وبالأخص فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فهو لا ولن يقبل أي حل لايرضى عنه الشعب الفلسطيني وممثله الشرعي والوحيد وهو منظمة التحرير الفلسطينية،المنظمة التي سعت وبمساندة غير محدودة من الدول العربية ومباركة من الشعب الفلسطيني نفسه، للحصول على صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، باعتبار ذلك هو السبيل الوحيد لتحقيق أحلام وآمال الشعب الفلسطيني في التحرير والعودة وانشاء الدولة الفلسطينية.
لقد قبل الأردن بقرار الجامعة العربية باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني سواء كان في الأرض المحتلة أو ( الشتات)، واستجاب لكل الطلبات التي رغبتها منظمة التحرير الفلسطينية بما في ذلك فك الارتباط بين المملكة الأردنية الهاشمية والضفة الغربية المحتلة، مع الاحتفاظ بالمسؤولية عن ادارة الأوقاف الدينية والمقدسات حيث ظل الأردن هو المشرف على ادارة هذه المقدسات والانفاق عليها وصيانتها.
وقد يكون من المناسب في هذا الصدد التذكير بأنه عندما دعت الحاجة الى صيانة قبة الصخرة المقدسة، وقف الأردن وحيدا بين موقف اسرائيلي متعنت بأن تتم الصيانة تحت اشرافه المباشر، وبين موقف عربي ( أقل ما يوصف به أنه متخاذل) يصر على أن تدويل الاشراف على الصيانة بحيث يتم تنفيذها بواسطة منظمة الىونسكو بالتنسيق مع الدولة المحتلة. وتخلى الجميع عن الاعمار مما اضطر جلالة المغفور له الحسين بن طلال أن ينفذ صيانة وتذهيب القبة المقدسة، بتمويل واشراف أردني، تفاديا لتدويل الاشراف على المقدسات الدينية. وهذا لم يمنع بعض الحمقى من تدمير اللوحة التي تسجل هذا الانجاز المجيد.
لقد حرص الأردن بقيادة جلالة المغفور له أن يضمن خطابه التاريخي في مؤتمر الرباط عام 1974 وقبل أن يتخذ المؤتمر قراره، بيانا يمكن وصفه بأنه جردة حساب لمواقف المملكة الأردنية الهاشمية تجاه عروبة فلسطين وحقوق شعبها، منذ أن وضعت الحرب العالمية أوزارها وحتى تاريخ ذلك الخطاب.
ان اعادة قراءة ذلك الخطاب واستذكار ذلك البيان بعد أربعين عاما عليه، شرط أخلاقي مسبق لكل من يتصدى للحديث عن القضية الفلسطينية، أو يحاول أن يرمي السياسة الأردنية الرسمية تجاه القضية على الأقل، بالتقصير أو التخاذل أو التهاون. لأن ذلك كفيل بأن يوجب عليه أن يعتذر من نفسه على سوء تقديره.
واستعرض لنفسي أولا مفاصل محددة من ذلك البيان والذي ورد فيه حول موقف الأردن من قرار 242 ما يلي:
لقد سلكت الحكومة الأردنية - كما تثبت الوثائق والمذكرات والأحاديث - مسلكاً سليماً في نظرتها إلى هذا القرار وفي تفسيره وفي أوجه تطبيقه وقام هذا المسلك على الأسس التالىة:
أولاً: إن انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة يجب أن يكون كاملاً وشاملاً ووحدة لا تتجزأ.
ثانياً: إن الخطوط التي يجب أن تنسحب إليها إسرائيل، وهي خطوط ما قبل الخامس من حزيران 1967 موضوع مستقل ومنفصل عن موضوع تعيين الحدود في التسوية النهائية، كما يتضح ذلك في نصوص القرار - 242 - وفي أي حال من الأحوال لا يمكن لهذه الحلول أن تكون في اتجاه الأراضي العربية لأنها إن كانت كذلك، فإنما تشكل خرقاً لمبدأ عدم مكافأة العدوان ومبدأ عدم اكتساب الأراضي بالقوة المسلحة.
وبناء على هذا، فقد كانت الحكومة الأردنية وممثلوها يرفضون على الدوام دعوى إسرائيل أنها غير مستعدة لأن تنسحب إلا إلى حدود آمنة ومعترف بها وخاضعة لموافقة الطرفين. كانت الحكومة الأردنية ترى أن الانسحاب الإسرائيلي عن سائر الأراضي العربية أمر يجب أن لا ينقضه أو ينقص منه أي أمر آخر. لأن احتلال إسرائيل للأراضي العربية بقوة السلاح يشكل عدواناً مسلحاً مستمراً لا بد من أن يزول قبل الاتفاق على أي موضوع آخر. وكانت الحكومة الأردنية تصر دائماً على وجوب أن تلتزم إسرائيل بهذا الانسحاب التام من أجل فتح الطريق أمام تنفيذ قرار مجلس الأمن المشار إليه.
ثالثاً: بالنسبة لموضوع حدود إسرائيل. لم يلزم الأردن نفسه بتعيين أية حدود لها، واعتبر أنه ليس من حقه، ولا من حق أية دولة أخرى، أن تعترف لإسرائيل بمنطقة تقع في نطاق القضية الفلسطينية والحقوق - الفلسطينية وهي ملك للشعب العربي الفلسطيني
رابعاً: بالنسبة لمواصفات السلام وشروطه مع إسرائيل. فإن الأردن يلتزم بسياسة عربية موحدة إزاء السلام وأبعاده.
خامساً: فيما يتعلق بالتسوية العادلة لقضية اللاجئين، ترى الحكومة الأردنية أن للاجئين حقوقاً سياسية ومدنية وإنسانية معترفاً بها، وأن عشرات القرارات والتقارير التي أصدرتها وما زالت تصدرها الأمم المتحدة والقوانين الدولية لتؤكد لهم هذه العدالة.
سادساً: وأما بالنسبة للحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني. فإن قرار مجلس الأمن رقم - 242 - لا يقيد من هذه الحقوق ولا يتنافي معها ولا يتعارض مع أي قرار سبق أن أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في القضية الفلسطينية. ولا يطغى على هذه الحقوق قبول دول المواجهة لقرار مجلس الأمن المشار إليه، لأن مطالبة هذه الدول بتأمين الانسحاب الإسرائيلي عن أراضيها المحتلة، لا يعني ممارستها حق التصرف بالأرض الفلسطينية. ولهذا كررت الحكومة الأردنية القول الذي أعلنته أنا عدة مرات بأن حق الشعب الفلسطيني وممثليه في عرض قضيته والدفاع عن مطالبه وحقوقه يتعدى نطاق ما تطالب به» المملكة الأردنية الهاشمية ونطاق مسؤولياتها
سابعاً: إن الطريقة القويمة لتنفيذ القرار 242 كما يراها الأردن، هي في اتباع ما يلي:
أولاً: أن تكون المحادثات لتنفيذ القرار مع الفريق العربي موحداً. وإذا حدث أن جرت المحادثات بشكل متفرق، فلا بد للأطراف العربية من الحفاظ على المشاورات فيما بينها والاتصالات وضمان التنسيق والتعاضد والتساند تلك المقومات الكفيلة بتأمين أفضل عرض للنجاح.
ثانياً: أن يبنى الموقف العربي تجاه تنفيذ القرار على أساس التنسيق بين الأطراف العربية على أساس التوازي في السير.
أما بشأن المشاركة الأردنية في مؤتمر جنيف عام 1974 فقد ورد في البيان مايلي:
عندما تقرر تأسيس مؤتمر جنيف من أجل السلام في الشرق الأوسط، وجهت حكومتا الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية والسكرتير العام للأمم المتحدة الدعوة إلى الحكومة الأردنية لحضور هذا المؤتمر والاشتراك في أعماله نظراً لكون الأردن دولة محتلاً جزء من أراضيها وطرفاً في القرار (242) وفي القرار (338) وفي محادثات السلام كلها.
ففي يوم 18 كانون الأول (ديسمبر) 1973 استقبل السكرتير العام للأمم المتحدة سفراء مصر وسوريا والأردن وإسرائيل وسلمهم كتباً إلى حكوماتهم بالدعوة إلى حضور مؤتمر جنيف، واشتملت دعوته على دعوة من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
ونظرت الحكومة الأردنية في هذه الدعوة في ضوء اعتبارين هامين:
الاعتبار الأول: أن المنظمة الدولية ممثلة بالسكرتير العام وجهت الدعوة إلى الأردن لحضور هذا المؤتمر، وأن الدولتين الكبيرتين المترأستين لهذا المؤتمر وجهتا كذلك الدعوة إلينا.
الاعتبار الثاني: إن كتاب الدعوة نص على أن يبحث في الطور الأول موضوع إشراك أطراف أخرى في المؤتمر ورأت الحكومة الأردنية أن من الضروري أن تكون هذه الأطراف الأخرى الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وبناء على ما تقدم، وبعد الاتصالات والاستشارات التي أجريتها وحكومتي مع العواصم الشقيقة المعنية، أبلغ الأردن موافقته على حضور مؤتمر جنيف، فاشتركنا به مع مصر الشقيقة، نحن الاثنين وحدنا من الجانب العربي.
وعن محاولات اجهاض الجهود الأردنية لتحقيق تقدم في تنفيذ قرارات مجلس الأمن فقد ورد في البيان ما يلي:
غير أنني في الوقت الذي كنت فيه في واشنطن في الأسبوع الأول من آب الماضي وفي أول زيارة للرئيس الأميركي الجديد وأول لقاء عربي معه بعد تسلمه مهام الرئاسة ساعياً لدعم الموقف العربي ولإنجاح عملية فصل القوات كانت بعض التصريحات العربية تتبعني أو تسبقني تعلن معارضتها لعودة الإدارة الأردنية إلى الضفة الغربية أو إلى أي جزء منها يتم تحريره.
أما عن موقف المملكة الأردنية الهاشمية الرسمي والشعبي من عودة الادارة الأردنية الى الضفة الغربية فقد ورد في البيان ما يلي:
حول هذه النقطة، نقطة عودة الإدارة الأردنية إلى الضفة الغربية أو أي جزء منها يتم استرجاعه، أرجو أن أوضح أن الإدارة الأردنية في الضفة الغربية قائمة الىوم عملياً، فالجهاز الإداري في الضفة الغربية مرتبط ومتصل بالجهاز الإداري المركزي في عمان، والمحافظون والموظفون والقضاة، والأوقاف، والبلديات، والنقابات، والجوازات والتربية والتعليم، وغيرها، كل ذلك يتبع الحكومة المركزية في عمان، وتدفع الحكومة الأردنية كل ما يترتب على ذلك من رواتب ونفقات وقروض من موازنتها العامة. كل ما في الأمر أن الضفة الغربية يفصلها عن الضفة الشرقية الاحتلال الإسرائيلي وسلطاته العسكرية. فإذا أبعدنا الاحتلال عن جزء من تلك الأرض العزيزة، فإنا لا نكون أدخلنا إدارة أردنية جديدة.
وعن مسألة تمثيل الشعب الفلسطيني يضيف البيان،
وينقلني هذا الحديث إلى مسألة تمثيل الشعب الفلسطيني.
إن هذه القضية، قضية تمثيل الشعب الفلسطيني، قد أدخلت على القضية العامة في غير أوانها. وحول هذه المسألة، أحب أن أذكر أننا لم نكن في يوم من الأيام ضد بناء الشخصية الفلسطينية أو ضد قيام التمثيل الفلسطيني المستقل.
كان الأردن في الأمم المتحدة وعلى مر السنين التي كانت تبحث فيها القضية الفلسطينية من زاوية اللاجئين الفلسطينيين يعلن وينادي بأن اللاجئين يمثلون شعباً له مقوماته القومية والسياسية والشرعية وله حقوقه في وطنه المغتصب وفي تقرير مصيره وكذلك كنا نؤكد بأن الهوية أو الجنسية المكتسبة لأي فلسطيني لا تعني أنه فقد حقاً من تلك الحقوق الثابتة المشروعة.
وفي مؤتمر القمة العربي الثاني في 11 سبتمبر 1964 الذي انعقد في الإسكندرية اشتركت المملكة الأردنية الهاشمية مع الدول العربية الشقيقة في القرار الذي اتخذه ملوك ورؤساء هذه الدول بالترحيب بقيام منظمة التحرير الفلسطينية واعتمادها ممثلة للشعب الفلسطيني في تحمل مسؤولية العمل لقضية فلسطين والنهوض بواجبها على الصعيدين العربي والقومي.
وفي عام 1965 كان من دواعي اعتزازي أني افتتحت أول اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني في القدس الشريف.
وفي البيان السياسي الشامل الذي ألقيته في الأول من أيار هذا العام أعلنت ما يلي: قلت:
(هناك نقطة كثر فيها الحديث في الآونة الأخيرة عن موقفنا من منظمة التحرير الفلسطينية. ولقد أوضحنا للقاصي والداني أن اعترافنا بمنظمة التحرير الفلسطينية قائم منذ أن قامت هذه المنظمة عام 1964 ونحن نرى أن تواجد وفدها في مؤتمر جنيف أمر طبيعي كي يبحث فيما يتعدى صلاحياتنا ومسؤولياتنا المحددة في نطاق قرار مجلس الأمن رقم (242) ويستطيع وفد المنظمة أن يطالب بالحقوق الشرعية لشعب فلسطين. تلك الحقوق التي نصت عليها قرارات الأمم المتحدة على مدى القضية الفلسطينية).
وفي البيان الأردني - المصري الذي صدر في الإسكندرية في 18 تموز (يوليو) 1974 على أثر المحادثات بيني وبين سيادة الأخ الرئيس محمد أنور السادات، ذكرنا أن السلام في منطقة الشرق الأوسط لا يقوم إلا بتأمين الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني، ودعونا إلى التنسيق في العمل والإعداد بين مصر وسوريا والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية ووافقنا على ضرورة ظهور منظمة التحرير الفلسطينية بشكل مستقل في مؤتمر جنيف في المرحلة المناسبة. وفي غير هذا من المناسبات العديدة أكدت موقفي هذا.
وقد أعلن الأردن في ذلك المؤتمر موقفه في حال إصرار القادة العرب ومنظمة التحرير الفلسطينية على نقل مسؤولية العمل على رفع الاحتلال الاسرائيلي عن الأراضي الفلسطينية المحتلة وجعلها قضية خاصة بمنظمة التحرير الفلسطينية تساندها الدول العربية الأخرى فقد ورد في الخطاب مايلي:
لئن كان الأخوة العرب في هذا المؤتمر العالى يرون أن المملكة الأردنية الهاشمية ليست لها صفة شرعية في التكلم باسم الفلسطينيين الذين يعيشون في كنفها ويحملون جنسيتها، والذين أصبحوا جزءاً من مؤسساتها، ولا الدفاع عن حق هذا الشعب ولا مسؤولية العمل لاستعادة أرضه المغتصبة ورفع الاحتلال عنه وإزالة العدوان، وإذا كانوا يرون أن هذه الصفة الشرعية منحصرة في منظمة التحرير الفلسطينية وحدها. فإنني باسم المملكة الأردنية الهاشمية أحملهم وحدهم مسؤولية رأيهم وقرارهم وكل النتائج المترتبة عليه واعتبره إعفاء لنا من مسؤولياتنا السياسية الراهنة. ونترك الحكم على هذا القرار إن صدر للتاريخ... عند هذا أيها الأخوة يصبح من المحتم علينا أن ننسحب من الاشتراك في مؤتمر جنيف ومن كل عمل أو نشاط دبلوماسي أو دولي دخلنا فيه من جراء قبولنا لقرار مجلس الأمن رقم (242) وقرار مجلس الأمن رقم (338) وكل ما ترتب عنهما من واجبات ومسؤوليات. لأننا في الوضع المشار إليه نصبح في المؤتمر وفي المحادثات السياسية في موقع غير معترف به من قبل أشقائنا العرب. عند ذلك وعلى أية حال. فإننا باقون في موقعنا القومي من قضية فلسطين التي هي قضية الأمة العربية جمعاء.
وإذا حدث أن اتجه هذا المؤتمر إلى حصر التمثيل الشرعي للشعب الفلسطيني بمنظمة التحرير الفلسطينية وحدها وبالتالى إلى إنهاء دور الأردن المباشر بالعمل السياسي وبالمطالبة والمفاوضة رغم موقعه وحقوقه وجهوده ورغم تضحياته وما قدم لهذه القضية عبر التاريخ ورغم الواقع الذي يعيش فيه، فإن الأردن سيبقى على كل حال في مكانه القومي من أجل هذه القضية وفي سبيل عزتها وانتصارها، هذه القضية التي تحدر إليه شرف خدمتها جيلاً بعد جيل، وحقبة بعد حقبة، ومنذ الفتح العربي الأول وعلى مر العصور وحتى النهضة العربية الحديثة. وسيبقى صامداً مرابطاً على أطول الخطوط وأخطرها ينشق عبق الشهادة من روابي فلسطين ويسمع التكبير من مآذن المسجد الأقصى..
وإني على يقين من أن المسؤولية العظمى التي يتحملها كل منا في هذا المؤتمر العالى تدعو كلاً منها وتفرض علينا جميعاً أن نحدد مواقفنا بكل وضوح وأمانة وصراحة بما يرضي الله والضمير ويلبي نداء الأجيال. فلنتوجه إلى الله العلي القدير أن يلهمنا الحكمة والرشاد ويهدينا سواء السبيل.
(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب). صدق الله العظيم.
لم يتنكر الأردن لهذه الثوابت بعد أن قرر العرب جميعا تحميل منظمة التحرير الفلسطينية، وانما ظل وفيا لهذه القضية. وعندما قررت منظمة التحرير الفلسطينية لاعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني اعلان دولة فلسطين بالجزائر عام 1988، كان لابد للأردن من أن يقرر فك الارتباط التزاما منه بمبادئه وتسليم المسؤولية السياسية عن الضفة الغربية إلى الممثل الوحيد للشعب الفلسطينيين بعد اعلانها إقامة الدولة في 31/ 7/ 1988، مع الاحتفاظ بمسؤوليته عن شؤون الأوقاف والمقدسات الاسلامية حتى لا تنتقل المسؤولية عنها إلى الاحتلال. وهكذا أصر الأردن على أن تتم صيانة قبة الصخرة على نفقة الهاشميين الشخصية حتى لا تنفذ بواسطة منظمة الىونسكو ويصبح اعمار المسجد والصخر مسؤولية دولية، ومع ذلك فثمة من بين مدعي الوطنية من أظهر احتجاجه على ذلك. كذلك فقد حرصت معاهدة وادي عربة بالرغم من كل الهجاء الذي تتعرض له على عدم التفريط أو التدخل في مساحة التفاوض بين منظمة التحرير الفلسطينية أو السلطة الفلسطينية.
كثير مما يمكن قوله في هذا الصدد، ولكن ما هو مؤكد أن السياسة الأردنية هي الأكثر وضوحا والأكثر حرصا على القضية الفلسطينية وعلى حقوق الشعب الفلسطيني، ولا مبرر لأي من العرب أو الفلسطينيين أو الأردنيين، أن يوحي بأن تنازل المفاوض الفلسطيني عن أي حق فلسطيني له علاقة بالسياسة الأردنية.
في البال أشياء كثيرة، ولكن... كفي.
جولة كيري.. وقراءة في خطاب تاريخي
أخبار البلد -