تشكل احداث جامعاتنا الواحدة تلو الاخرى، والتي تدمي قلب كل أردني نتيجة منطقية لتواصل دورة العنف الطلابي، والذي اتخذ مسربا اكثر حدة في الأشهر الأخيرة، وقد باتت حواضن الفكر والمعرفة مسرحا للتناحر المناطقي . وقد فشل المجتمع الاكاديمي عن ان يستقطب الطالب ويخرجه من بوتقة العشيرة، وعجز عن ان يمده بمادة معرفية تفضي الى بناء قيم المواطنة، ونهج الحياة الصحيحة. وقد كان التعليم العالي في الاردن مضرب مثل في الاطار العربي، ويعد من اوجه التطور والانجاز ، ومع غياب القادة المخططين بدأ التراجع في كل القطاعات، وكان منها التعليم العالي للاسف .
واذكر اننا التقينا بعد احداث جامعة مؤتة المؤلمة مع دولة الرئيس النسور، ومعالي وزير الداخلية، والتعليم العالي، وقادة الاجهزة الامنية والذين كانوا معنين أي قادة هذه الاجهزة في الحديث عن انجازاتهم في التعامل مع الظرف، واشرنا الى خطورة تواصل العبث في الجامعات والذي سينقل الصراع الى المجتمع المحلي، وخاصة في الخاصرة الجنوبية للدولة. وهو ما يستلزم الوقوف على الاسباب الحقيقية للاحداث المتكررة على صعيد الجامعات الاردنية.
وان ما يجري في غالبية جامعاتنا من احتدام الطلبة بقدر ما يؤشر الى فشل اجتماعي عميق يتعلق بمخرجات البنية الاجتماعية التي ما تزال غير قادرة على التجديد، إضافة الى المفهوم الخاطئ للكرامة لدى النشء ، والتعبئة الاجتماعية التي تقوم على التمايز بين الناس على أساس نوعية التكوين الاجتماعي ، فهو أيضا يلقي بالمسؤولية على النظام التعليمي الذي ما يزال غير قادر على ان يحسن مخرجاته ، ويرقى بسلوك الطلبة ، ويفكك الانتماءات الضيقة التي تحكمهم وتتوسع على حساب تراجع مكانة المواطنة، وهي التي كانت الوصفة الحقيقية لخلاص المجتمعات الغربية من عوامل تناحرها الداخلية .
ولا شك ان الماضوية في صراع مع المعاصرة في مجتمعاتنا ، وما يزال الصراع لم يحسم لمصلحة الانطلاق بسبب القيود التي يتم ابقاؤها من خلال نظرة اجتماعية قاصرة تعتبرها اصالة.
والعملية التعليمية تجري بمعزل عن حركة المجتمع خارج أسوار المدارس والجامعات ، وما استطاعت وضع العلل الاجتماعية قيد المراجعة ، لإيجاد الواقع الاجتماعي الأفضل ، والمستقبل الجيد لا يمكن ان يتجسد في واقع اجتماعي يفشل عن ان يرتب أولوياته ، ولا يرتكز فيه الحراك الاجتماعي على المصلحة العامة الحقيقية التي تكون من خلال ايجاد حياة متوازنة يمارس فيها الفرد حرياته الممكنة.
ومناوشات الطلبة في الجامعات، والتي اتخذت في الاونة الاخيرة بعدا اكثر عنفا ودموية عملية سلبية تقيس مستوى تطورنا الاجتماعي الحقيقي ، وتظهر ما يختزن في التكوين المجتمعي من أمراض تفشل المراكز العلمية عن مواجهتها الى اللحظة ، وتعبر عن سيادة أحوال الماضي في حياتنا الحاضرة ، فالفرد ما يزال أسير حياة التناقضات ما قبل تكون الدولة، وهي التي كان مقدرا لها ان تفضي إلى خلق المجتمع المدني ، بما يدفع أفراده للاحتكام إلى القانون بوصفة الوسيلة الوحيدة لحماية الحقوق والحريات ، وقد مكن هذا الحال من انتاج الإنسان السلمي في المجتمعات الغربية ، وتم اخلاء هذه المجتمعات من العنف ، لصالح مؤسسات قوية ، ولم يعد الفرد يقوم بمهمة الدولة بنفسه .
والمواطن في المجتمعات الحديثة يكيف سلوكه وفق ثقافة قانونية سليمة ويقارب تصرفاته للفهم القانوني إضافة الى خضوعه للقانون المعنوي من حيث ضبط إيقاع المجتمع على وحي من قواعد اخلاقية ملزمة تتبدى من خلال سيادة معادلة يتساوى فيها الذوات من حيث الآدمية ، ويتفاوتون من حيث العمل.
ان الخلل يكمن في استحضار أحوال الماضي في حياتنا المعاصرة زمنياً والماضوية سلوكاً ، وعدم القطع بين ما نعتقده أصول وجذور ، وهو محض حراك اجتماعي كانت تحكمه توازنات لم تعد موجودة .
ومن المهم اليوم امام تفاقم الازمة ايجاد مادة عملية، وعملية تعليمية قادرة على ان تخرج الطالب من الإغراق في الماضوية ، لصالح التجديد والحياة المعاصرة، وان نتجاوز معطيات وهمية تبلغ عند تراجع الوعي حد القداسة، وهو ما يتطلب تغييرا ثقافيا عميقا.