اخبار البلد
يطيب لي أن أعتبر بعض الأصوات التي تصدح في الشارع الأردني داعية ضد النظام ليس أكثر من محاولة للصراخ بصورة غير مألوفة على أمل تحقيق إستجابة أو حتى إلتفاتة للناس في الشارع بدلا من تركيز كل الحواس مع نخبة تكثر من الإقتراحات البائسة بعدما أصبحت عمليا طرفا في الإشكال ولا يمكنها لأسباب واضحة أن تكون طرفا في المعالجة والحل.
شخصيا لم أقابل إطلاقا في الأردن ولو شخصا واحدا يؤمن أو يدعو فعلا لإسقاط النظام أو يصدق بأن ما حصل في دول مجاورة ينبغي ـ لا سمح الله- أن يحصل في الأردن.
لكني قابلت عشرات المستائين من مؤسسات النظام والحاقدين على رموز النظام وقابلت آلافا من المواطنين والسياسيين الذين يحتفظون بأسئلة معلقة يطرحونها على النظام باحثين عن إجابات أو تفسيرات على أمل إعتمادها كنص للحكاية حتى لو لم يتميز بحبكة منطقية، فالأردنيون ملتصقون تاريخيا بنظامهم بطريقة عجيبة لم تكن يوما قابلة للإختراق.
والإنصاف يتطلب التسجيل بان النظام الأردني لم يتعسف ولم يبطش ولم يسيل الدماء في شعبه ولم يستأصل ولم يوجه ضربات قاضية لاي مواطن أو جهة أو حزب أو عشيرة وكان التسامح والأمن والإستقرار دوما من القوانين غير المكتوبة التي حفظها الأردنيون عن ظهر قلب.
مرر الشعب الأردني رغم عدائه الإيديولوجي والعقائدي لإسرائيل إتفاقية وادي عربه من أجل الملك حسين واحتمل الناس الفقر والجوع والبطالة والفساد وأحيانا الظلم الفردي وغالبا غياب دولة القانون والمؤسسات والمواطنة عشرات السنين في إطار معادلة الأمن والإستقرار ولانهم كسبوا في النهاية دولة آمنة مستقرة صلبة يحترمها رعاياها وتعبر عن مصالحهم المعيشية.
لذلك تجلس المؤسسة العسكرية الأردنية بوقار في قلب ووجدان الأردنيين من شتى الأصول والمنابت فهي لم تكن يوما ذراعا في يد النظام ضد الشعب وبقيت معزولة عن السياق السياسي وخارج حسابات التجاذب وعنوانا لإحترام الأردنيين وتقديرهم.
وقد لمست ذلك مؤخرا مباشرة عندما دعا أحد الزملاء في إجتماع داخل كلية الحرب والأركان لمشاركة العسكر في الإنتخابات فرد عليه أحد الجنرالات قائلا: لا نريد المشاركة في السياسة ..تركناها لكم .. فقط قوموا بواجبكم كما ينبغي وإنجزوا الإصلاح وأبلغونا متى تريدون منا إستخدام البندقية وأين؟
..مثل هذا الجواب العقلاني المثير للإنتباه يعكس في الواقع مستوى التفكير الإيجابي عند مؤسسة الجيش العربي التي يطالب المواطنون برجالها عندما يضطرب الأمر أو عندما يرتكب السياسيون والوزراء وحتى الأمنيون حماقات بيروقراطية أو سياسية.
.. اليوم حصلت أخطاء فادحة لا أحد ينكرها، وهي أخطاء لم ترتكبها المعارضة ولا علاقة لها بالمشروع الصهيوني ولا بالمواطنين المسحوقين بل ارتكبها وتحت الشمس رجال اختارهم النظام لتمثيل الناس عنده وبإسمه وبطريقة غير ديمقراطية.
اللصوص والفاسدون الذين دفعوا الناس للخروج للشارع كانوا دوما من طبقة المحظيين الذين أحيطوا بدلال خاص من مؤسسات النظام، والمديونية التي يطالب الشعب اليوم بإحتمال نتائجها وآثارها تراكمت بسبب أخطاء وزراء وبيروقراطيين لم يتم إختيارهم وفقا لصندوق الإقتراع حتى يتحمل الشعب كلفة إجتهاداتهم.
الحاقدون على النظام اليوم من صداحي الشارع هم حصريا ضحايا ما يسمى بالقبضة الأمنية التي إستخدمت في غير موقعها والمواطنون الذين إنتهك مغامرون متنفذون بإسم النظام والشرعية حقوقهم وبعض المتخصصين بتوتير الأجواء وإلهاب الهتافات والصراخ ليسوا أكثر من أدوات إستخدمتهم مؤسسات أمنية في الماضي لصالح عمليات صغيرة تأسست على الشخصنة وليس على الإعتبارات الوطنية.
الحراك الأردني ليس ربيعا دمويا ولن يكون بإذن الله ولا يتحرك لوحده وثمة أسباب تدفع الناس للإحتجاج والإعتراض وللصراخ وفي غالب الأحيان للإرتماء في أحضان الإسلاميين وأحيانا التيارات المتطرفة وهذه الأسباب منتجة ومصنعة حصريا في مصانع مؤسسات القرار الرسمي والدولة والنظام الذي بناه الاردنيون بالعرق والدم والجهد.
ثمة هوس في العثور على تفسير لما يجري في البلاد ..أي تفسير من أي نوع لكن لا حياة لمن تنادي فالنظام يراهن فقط على نفس الطبقة الكلاسيكية التي أفسدت طوال عقود علاقته بالناس والساعية لمصالحها الخاصة بعدما عطلت ماكينة صنع النخب والرموز.
الأردن قد تكون الدولة الوحيدة في العالم التي يتميز رجال الحكم فيها بقدرة فائقة على طرد المبدعين والخلاقين وأصحاب الكفاءات للبقاء في الكراسي .
والبلد الوحيد الذي لا تصنع مؤسساته الحاكمة نخبا جديدة للحكم والإدارة فتنشل الرموز من نفس الطنجرة التي أكلها الصدأ وإهترأت ولم تعد تصلح لإعداد الطعام الصحي أو الجيد.
مشكلة أساسية من مشكلات المؤسسة الأردنية تتمثل في قصور فاضح لدى الحلقات الوسيطة التي تحصل على الإمتيازات والرواتب والألقاب والمال حتى تصنع علاقة إيجابية بين الحاكم والمحكوم.
هذه الحلقات إما سقيمة غير منتجة لا تصلح أصلا للوظيفة وإما مرتبكة خائفة تعمل لدى مؤسسة الأمن أكثر من عملها لدى النظام نفسه حتى أن المؤسسة الأمنية نفسها تحتار في الكم الهائل من {المتبرعين} من رجال الدولة الذين يطالبونها بالتدخل ويعرضون عليها التفاصيل ويخطبون ودا لا يدوم وينبغي أن لا يدوم.
لذلك وبناء على كل هذه الإعتبارا ت أحب أن أرى بعض الهتافات الجارحة التي تصدر من بعض الناس في الشارع والتي تخالف ما تربى عليه الناس وتمس بثوابتهم بإعتبارها نداء جديدا للملاذ على أمل الإستجابة وليس دعوة فعلية وحقيقية لإسقاط النظام.
أملي شخصيا بالناس أن تختفي مثل هذه الهتافات تماما ونركز على الدعوة للإصلاح الفعلي.
وأملي في النظام أن يصبر ويوسع صدره فاللحظة تستوجب إظهار قيمة التسامح والصبر على الناس الغاضبين والملك كما يقول مبارك أبو يامين ملك على الجميع .. على الموتورين والمجانين والعاقلين معا وعلى الموالي والمعارض معا على المواطن المحتقن والمرتاح معا. مرة أخرى لا أصدق أن أردنيا يؤمن فعلا بإسقاط النظام .. إنه بإختصار نداء بلغة قاسية ومرفوضة للنظام أملا بالإصلاح وحتى لا نسقط جميعا في الإحتمالات نتمنى أن لا يكون النداء الأخير.