أخبار البلد -
اخبار البلد_ القى الاستاذ احمد سلامة مستشار ولي عهد البحرين كلمة مؤثرة خلال حفل تأبين
عاصم غوشة الذي اقيم مساء يوم السبت الاسبوع الماضي في مركز الحسين الثقافي لاقت اعجاب
الحاضرين الذين احتشدوا للمشاركة في تأبين الفقيد .
الكلمة التي
اشارت الى مناقب المرحوم غوشة استحضرت تجليات الوحدة الوطنية بين الشعبين
الاردني والفلسطيني عموما ودور كل من مدينتي نابلس والقدس في رسم ملامحها
وقبل ذلك كله حق الدم الذي شرعه الاستشهاد الاردني على اسوار القدس وبلاطها
وتاليا نص الكلمة :
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم،
الحمد لله الذي اجتبى من شاء،
وهدى إليه من أناب،
وسلك بهم طريقه المستقيم،
وأوردهم موارد الأنس به،
وأفردهم لما خلقهم لأجله،كرامة لهم
فما أحسن حال المنتسب لربه،
والصلاة والسلام على النور الذي تعينت به الرحمة، من الغيب إلى الشهادة…
وعلى آله والتابعين له بهمة لا يعروها كلال ولا ملال، وصحبه ومن تبعهم بإحسان على النهج المستقيم،
وبعد،
أيتها السيدات النبيلات،
أيها السادة الحضور،
تمثل
ذكرى الأربعين (كعادة محمودة) في استحضار مناقب الذين سبقونا على درب
الموت الواعظ لحظة تكثيف ودود، لسيرة المُفتقد، وأسراره الحلوة.
وتمثل ذكرى الأربعين، إشهار طوي الحداد على الميت يرحمه الله، وفرد أشرعة الحياة من جديد لذويه ومعارفه.
لذا، لا بد أن يكون المُتَحَدِّثُ عن (المُوَدَّعْ) على صلة قرب، أو صلة قربى. أو يجمعهما معاً وذلك أحلى وأشهى.
أقتبست
كل هذا التوصيف لمعنى الأربعين من قول جميل لصديق جميل وزميل منذ الجامعة
الأولى، والأردن الأولى، والطفيلة الأولى، والبراءة والعفوية الأولى، حيث
كنا معاً. الدكتور صبري ربيحات وأنا، وأرشدني كعادته في سهرت قبل ليال
ثلاث، جمعتنا على مائدة الطيب عصام كساب، مع رهط من الصحاب، وثلاثتنا (
صبري وعصام وأنا) كنا ولم نَزَلْ نتقاسم المودة ونتبادلها مع عاصم غوشة،
الذي ظل معنا طوال تلك السهرة.
أعجبني حد الدهشة، هذا التلويح من الدكتور صبري لي وتوجيهه لقولي هذا اليوم عن عاصم عبدالله غوشة يرحمه الله أمامكم.
إغلاق
باب الحزن، وفتح نوافير الفرح على الذي مات وفات بعد أن ترك لنا ما يوجب
أن نفرح له مما تركه فينا، ذرية وذكريات عطرة. وعلى هذا، فإنني أقبل على
أول تجربة لي في الحياة، أتحدث فيها عن صديق مات، وأتشرف بذلك. وسأعمل على
حصر ما سأقوله ببعض سجايا عاصم الصديق.
أعرف أيتها الأخوات أيها
الإخوة أن مئات بل ربما الآلاف فينا، يعتبرون أنفسهم أصدقاء لأبي عبد الله
عاصم. وهذه أول مروآته في الحياة، ولم يكن له من عدو، وقد رغب عن ذلك طوال
حياته، ولقد كنت واحداً في عداد أولئك الأصدقاء.
وإن تفاوتت
الروايات فيما رأيناه واستذكرناه في الصديق الذي مضى، فإن ذلك بسببنا لا
بسببه. فرؤانا هي التي تتحكم بنا فيما رأيناه فيه.
هذه بعض شهادة لي في عاصم عبدالله غوشة. أوفّيها بين يدي ربي، سبحانه، وملتمساً ممن يعرف غيرها أن يكملها من زاويته.
أولاً، تحدّر (عاصم) من مدينة دهرية، لا تعرف الضوضاء. ولا تحتاج إلى الضجيج والصخب.
ولئن
كانت بلاطات القدس العتيقة، تطفو كلها على بحر من دم زكي، فاض عبر آلاف
السنين، فِدْوَ عيونها على المدى، حتى كادت أن تكون بلاطاً دامياً، أو
بلاطاً من دم. فإن سمةً عامةً قد طبعت أبناءها، بالصوت الخفيض الحنون،
والرغبة في اعتبار أي حوار شكلاً من أشكال المناجاة الدافئة.
ترن
بالعذب، وتنأى بنفسها عن الصراخ والصياح، وأصوات أبناء الريف المتهادية بين
الوديان، عالية ضارية، سعياً لتبديد الوحشة والوحدة في مواسم القطاف
والحصاد.
ولست أدري كم منكم سيشهد بما سأشهد به، وعلى مدار معرفتي
بعاصم التي امتدت أربعين عاماً، لم أسمع صوته فيها على خارج نطاق أدب
القدس، ولم أتذكر قط أن انفعال القلب أو انكساره لديه قد ترجم صوتاً عالياً
أو ضجيج احتجاج.
كان صوته، يرحمه الله، سر ملاحة شخصيته، تسري في رنته الحنونة كل أدبه الدهري.
ثانياً،
إذا كانت سماحة أقضى القضاة، عبدالله غوشة رحمه الله، قد فاضت سمة وصفة
على كل من عايشه، وتتلمذ عليه. فإن عاصم البكر والوريث، قد قضى حياته كلها
ظلاً لذلك الظل العالي رحمهما الله.
والفقيد عبدالله غوشة دخل عالم
(الرمزية الوطنية) بفقهه ومواقفه ودعائه التليد للحسين حفيد الشهيد الذي
اصطفى عبدالله قاضياً (اللهم أَرِهِ الحق حقاً وارزقه اتباعه … وأَرِهِ
الباطل باطلاً وارزقه اجتنابه).
عبدالله غوشة الرمز تجاوز بعلمه
وعلومه ومواقفه التعبير عن روح مدينة مقدسة، فصار تعبيره مقدساً لوطن
كُلِّه، وأضحى هو إمام الأئمة وداعية الدعاة.
وقد ورث عاصم كل هذا
العبء الروحي والنفسي، والله يعلم ونحن نشهد أننا رأينا عاصماً قد برّ بذلك
الإرث الوقور. كان (عاصم) رجلَ حب للدين وللإسلام، من غير عنت ولا تزمت،
ولم أره في حياة امتدت حواليه بالموبقات قد تزحزح أو شان خطه الصوفي
الملتزم بالدين الحنيف شائنة، وتمسك عاصم طوال حياته بعروة أبيه يرحمهما
الله، وبأوامره وبنواهيه.
وظل جميل الصفات، نبيل الخصال، لا يذم ولا ينم، يؤدي الصلوات في مواقيتها، ويجمع بين أناقة الهمة وعفة النفس والروح واللسان في آنْ.
ثالثاً،
على آخر طرف ذات شباط من عام 1986، وكان ذاك الطرف اعتراه بعض بلل وبعض
هزيمة منكرة لنا. وليس بعيداً عن فندق الشيراتون في البصرة في عراق الشهيد
الأبي صدام حسين. ومن تحت القصف الإيراني المسعور، احتُلَّتْ شبه جزيرة
الفاو العراقية، شامةً على باب الخليج الذي لم يستقر اسمه بعد، ووطأها فتية
الحرس الثوري الإيراني الذين كانوا يلوحون ببنادق النصر بأيديهم، ويدلون
مفاتيح الجنة على صدورهم، وكانت جنتهم الموعودة هي العراق كما اتضح لاحقاً.
ثلاثة
أردنيين كنّا وسوداني، وإبراهيم نافع من مصر، نتأمل النخيل العراقي
المحترق، ونحيل الدم العراقي الطهور إلى حبر أردني عربي طازج، يحفظ للأمة
ويقرأ لها مواقفنا ويشهد.
الخل الوفي يوسف العلان وأنا، فريق صحيفة
الرأي الأردنية، هو يصوّر وأنا أكتب، والأستاذ الزميل عبدالله العتوم من
وكالة الأنباء الأردنية يلاحق ويتابع، وطه النعمان سوداني ثائر أحالته
الغربة والحاجة إلى مدون وقائع محايد في جريدة الاتحاد الإماراتية.
أتذكر
أيتها الأخوات وأيها الإخوة، أن الموت والقصف كانا تحت أرجلنا على بوابات
الشط، الذي عبرناه عربا أردنيين أتباعاً للحب الهاشمي الطاهر. ليلتها خرجت
مع يوسف العلان إلى أزقة الموت في البصرة، حيث كان بين كل قنبلة إيرانية،
وقنبلة، قنبلة. كنا نبحث في أزقة الموت في البصرة على صيغة تجمع الحياة
والموت، كانت كل حاراتها وبقالاتها، وتمثال بدر شاكر سيابها، وعيون الصبابا
الكحلاويات في البصرة، مضاءة إما غصباً أو تلبية لأمر عاجل من السيد
الرئيس المهيب، كي تبقى الحياة أقوى من الموت والهزيمة من البصرة.
دلفنا
إلى محل ملابس أطفال، وقفت سيدة بصراوية، مثل نمرة تبحث عن بنيها، متوثبة
من دون عداء،سألتها لم لا تمضين إلى بغداد يا خالة حتى تنتهي الحكاية؟
أجابت ببصراوية حرّى ولكن واثقة، ومن دون أن تعرف من نحن، ]يا وْلِدِي
العرب بواقين، قالو عن إخوانهم الفلسطينيين تركوا بلادهم، وذلوهم، آنا أفضل
أموت هنانه تحت القصف، ولا أسمع أبد كلمة من أهل بغداد تشين البصرة[.
فجأة…
أضحى المشهد سريالياً عن آخره، حين أطل علينا عاصم عبدالله غوشة من شاشة
التلفاز الكويتي الذي يبث نشرة إخبارية، وكان عاصم يقف بين يدي الحسين يقدم
له ولاء القدس وحب القدس على رأس وفد مقدسي.
قبل قرابة أسبوع من
التاريخ ذاك، أعلن الحسين فجأة سخطه وغضبه على م.ت.ف وقرر وقف التعامل
الأردني معها ومع كافة إطاراتها، ومع زعيمها المرحوم ياسر عرفات، لمماطلة
وحيل وخدائع استبدت بمواقف المنظمة مما عطّل عقد صيغة لاستعجال استرداد
الضفة الغربية.
كان الحسين رحمه الله، مرعوباً من تأخير استرداد ما
احتل من الأردن عام 1967، وأزعم أن روحه قد فاضت لباريها محلقة عبر القدس،
وكان قلبه أدماه الاستيطان اليهودي المجنون.
انتخى الحسين بأهل
الضفة الغربية من جديد وقت ذاك، لتقول الضفة الغربية: لا، عالية في وجه
المنظمة، مهما كان ثمنها. وكانت الـ (لا) هذه باهظة أثمانها.
وكما
للقدس عاداتها، فإن لنابلس مفاجآتها، وإراداتها النافذة، ومواعيدها
الثابتة. لبت نابلس النداء الهاشمي، وكان الثمن دم ظافر المصري (عم
الطاهر)، زكياً يرحمه الله، تسربل في شوارع نابلس رمزاً لوحدة أردنية
فلسطينية تعمد من أهل نابلس دوماً بالدم. كان ظافر المصري يكمل ما بدأته
نابلس تدريب رؤساء الوزرات الأردنية عليه: التضحية حد الموت ولاء للعرش
الهاشمي. وكما درب إبراهيم هاشم، أستاذ الدم الأول في رئاسة الوزراء في 14
تموز عام 1958، هزاع ووصفي على الإقدام والاقتحام ليبقى العرش الهاشمي
سيداً. كما كان دم ظافر شيفرة الحب الأخوي بين نابلس وعمان لرسم معنى تلبية
النداء الهاشمي للحسين ومن بعده أبو الحسين، ومن بعد بعده بعمر طويل إن
شاء الله أبو عبد الله، الحسين بن عبد الله. دائماً فينا إلى يوم الدين:
دماؤنا مهر لهم.
وكما أن نابلس لا تقول لا لآل هاشم، كذاك القدس والجليل والخليل. وسيأتي ذلك… يأتي من جديد… دماً دائماً وأبداً… تلبية إن شاء الله.
كان عاصم غوشة يطل بوقاره المقدسي علينا تحت الموت في البصرة مبايعاً من جديد على رأس وفد القدس حين عزّت مواقف الرجال.
لم يأبه بالموت عاصم. كان شجاعاً في وحدويته، فارساً في موقفه، وليس في ثرثرة لا تغني عن الوطن شيئاً.
عاصم
عبدالله غوشة، رمزاً من رموز شباط عام 1986 حين كان على أبناء الضفة
الغربية وأخيارها . الاختيار، بين: الموت الوحدوي من الأردني، والصمت
المصلحي مع المنظمة. لحظتها اختار عاصم قدره وقدر ذريته، ذلك القدر الوحدة
المضمخة بالدم مع ضفته الأخرى الشرقية. كان عاصم وحدوياً من طراز تتلى
حكمته على من يريد اتقان علم التلاوة في حب الوطن الأردني، في شرطه
التاريخي المسبق أن يظل هاشمياً جداً.
أخيراً، أقول في عاصم
الإنسان: إنه كان رجل مساواة وحب واحترام للمرأة. سواء أكانت أماً، أختاً،
زوجةً، كريمةً، أو كنة. أو أي إمرأة في المطلق. مؤمناً كان (عاصم) بحريتها،
قبل أكاذيب الجندر لأنه مسلم صحيح.
حنوناً ظل برفق لا يوصف، في
فهمه لمعاني النسوية والأنوثة، لأنه مقدسي ابن مدينة فاضلة. تلك القدس تصحو
في كل صبح على رائحة التسبيح الإلهي الذي جعل من المرأة أول المساواة مع
الرجل في إطار إسلامي حنيف، تلك القدس التي تصحو على صهيل روائح زهر
الليمون السابح من يافا نحوها مع برتقالها الفوّاح.
لقد كان (عاصم)
يذكر ويفاخر بعلم عصمت الشقيقة والشريكة ومثابرة ياسرة الكريمة، وبصبر
وحكمة أم عبدالله من بيت الصالحي الأكرمين، وكافة حرائر آل غوشة.
كان
يرحمه الله طرازاً فريداً في التحرر المحافظ الدافىء والانفتاح الخلاق
الرزين الذي يستأنس بوصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) "عن هذه الحميراء
خذوا نصف دينكم”.
ولئن وقفت اليوم إجلالاً لذكراه واحتراماً لصلة
قربي إليه لأترحم معكم على روحه وأستذكر معكم خصاله، فإن الصدق يلزمني
القول أن دافعاً آخر لي هو رغبتي في التعبير عن ولائي كتلميذ، تعلمت على
يديها نبل البحث والتقصي، وأنا طالب في السنة الثالثة في الجامعة الأردنية
الجامعة الأولى. أحببت أن أرد لها بعض جمائل لأنها أدبت وعلمت جيلاً
أردنياً كاملاً على حسن البحث والدراسة وكنت واحدا من ذلك الجيل تلميذا
لها، وأعطت للعلم وقارا كنا نباهي به ولم نزل، كطلبة لها، جئت لأعزيها
اليوم واقول لها إن أحد تلاميذك، سيدتي، يعرب عن امتنانه لأستاذيتك، انت
التي نظل نتباهى بتذكر أستاذيتك الطاهرة روحاً وعطراً ومئزراً ، حببتنا
بالعلم وإن لم نكن دائماً كما تريد. حيوا معي أستاذتنا شريكة الإرث النبيل،
شقيقة المرحوم الأصيل، المرحوم عاصم، السيدة النبيلة الجليلة أستاذة الجيل
الدكتورة عصمت عبدالله غوشة.
وحيّوا معي الوطن الأردني البهي الذي بعزته ورحمة ربه سبحانه مكننا أن نجعل من ذكرى الموت مهرجاناً وباستين حياة.
وحيّوا
معي هذا الملك الأبي الذي جنبنا، بحول من الله سبحانه وتعالى، من سوء كل
ما حولنا، وأمسك على جمر الوطن بهاشمية تستحق منا أن نظل نلهج له بالدعاء
الدائم: "اللهم أره الحق حقاً وأرزقنا جميعاً اتباعه”، أعني اتباع الحق
والملك. "وأره الباطل باطلاً وارزقه اجتنابه”. آخر القول، رحم الله عاصم
عبدالله غوشة الذي جمعنا بذكراه هذه الليلة، والعزة لله من قبل ومن بعد،
والعز للأردن، والسلام عليكم.