من الضروري بداية التمييز في لبنان بين الشيعية التاريخية الاجتماعية والشيعية السياسية المعاصرة، فالأولى تعود الى القرن السابع الميلادي في جبل عامل اللبناني بينما الثانية تعود الى 1974(مع حركة أمل ) ثم بعدها بثمانية سنوات (1982) مع حزب الله، كما ان الشيعية السياسية سابقة في بداياتها على الثورة الايرانية بعام واحد ، ولكنها تجذرت بعد الثورة الايرانية بثلاث سنوات، وثمة تباينات بين جناحي الشيعية السياسية وصلت احيانا للاشتباك المسلح كما جرى في اواسط الثمانيانت من القرن الماضي.
الى جانب الثنائية الشيعية (القابلة للتقارب والتباعد) فان العلاقة بين الشيعية السياسية اللبنانية وايران هو محدد آخر لمستقبل حزب الله بشكل خاص ، كما ان طبيعة القيادة التي حلت محل نصر الله "قد" تكون موضع تباين ، ثم ان فقدان الدعم السوري ، وتراجع الشيعية العراقية لاوضاعها الداخلية (مقتدى الصدر وخصومه) وانغماس ايران في مشاكل برنامجها النووي واعادة ترتيب تحالفاتها الاقليمية المحتملة ..كلها عوامل ستنعكس تدريجيا على المستقبل السياسي للحزب.
لكن المستقبل المباشر من1-3 سنوات، يشير الى مظاهر تستحق التأمل:
أ- انسحاب الحزب من المنطقة التي فيها قاعدته العريضة وهي جنوب لبنان الذي يمثل الشيعة فيه ما بين 70-75% من السكان...وهو ما يعني اخراج السمك من الماء.
ب- فقدان الفضاء الجيواستراتيجي الهام ، فمساحة جنوب لبنان تصل الى اقل قليلا من 900 كم2 (اي 2.5 ضعف مساحة قطاع غزة) فهذه المنطقة هي الأنسب للحزب للمواجهة من ناحيتين :الحاضنة الشعبية من ناحية والطبيعة الطوبغرافية المعقدة للمنطقة من ناحية ثانية.
ت- تضييق الفضاء السياسي على الحزب من خلال:
1- التوقف الميداني عن الاسناد لغزة بشكل خاص، وهو ما يجعل استراتيجيته في وضع مرتبك نظرا لانحسار المساندة بل والتخلي عنها.
2- طبيعة التحالفات الداخلية(لبنان) والاقليمية(الخليج وبقية الهلال الخصيب) والدولية المعادية له تمثل ثقلا كبيرا يعرقل طموحات الحزب.
ث- المشكلة التي يمكن ان يستثمرها الحزب لاحقا : ثمة اشكال في الجنوب اللبناني وهو:
1- التباين بين خط الهدنة الدولي الذي رسم الحدود عام 1949 بين فلسطين المحتلة واسرائيل وبين الخط الازرق الذي تم رسمه عام 2000 بقرار اممي(245)، فالتباين بين الخطين يتمثل في أنه ما زالت 13 نقطة حدودية موضع خلاف بين لبنان واسرائيل، فلبنان يصر على استعادة هذه النقاط الحدودية ال13 لانها لا تتسق مع الحدود الدولية بينما تتذرع اسرائيل بالخط الازرق، ويمكن للحزب ان يتذرع بان عدم تطبيق اسرائيل للانسحاب الكامل يستوجب مقاومتها بالقوة ويشكل ذريعة له مقبولة شعبيا.
2- اشكالية الحدود اللبنانية السورية الفلسطينية طبقا لتقسيم 1923(اتفاقية بوليه نيوكمب) التي عينت الحدود بين الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا وبين الانتداب البريطاني على فلسطين (والتي تم اعتبارها الحدود الدولية عام 1949)، وكما هو الحال في اشكالية الفارق بين خط الهدنة الدولي والخط الازرق لعام 2000، فان هذه الحدود ايضا فيها اشكالية سيطرة اسرائيل على مزارع شبعا وكفار شوبا وعدم وقوعهما ضمن الخط الازرق على الحدود السورية اللبنانية، وهما نقاط يصر لبنان على ملكيتهما.
في ظل هذه المعطيات كيف نقرأ خطاب نعيم قاسم اليوم :
1- أعلن رفض تسليم السلاح(مع انه انسحب من الجنوب وسلم كل انفاقه وصواريخه في الجنوب التي فجرها الجيش اللبناني)
2- الامتناع عن الرد على اي هجوم اسرائيلي ، وقد شملت الهجمات الاسرائيلية بعد اتفاق وقف اطلاق النار مواقع الحزب وافراده وقياديه ،دون ابداء اي رد، كما تغيب تماما عن اية مساندة لايران في الهجمات الاسرائيلية في يوليو الماضي، ويكرر في خطاباته بان هذا الامر- أي الرد على الاعتداءات الاسرائيلية- هو مسؤولية الدولة، فإذا كان هذا ضمن مسؤولية الدولة فما هي مسؤولية الحزب إذاً؟
3- تواري موضوع الاسناد الميداني لغزة تماما، بل تغيبها عن الخطاب السياسي تدريجيا.
ضمن المؤشرات العامة السابقة ما هو المستقبل:
1- ان الحزب اصبح اضعف مما كان عليه سابقا سواء في الاداء الميداني او في مشروعه السياسي او في بنيته القيادية.
2- ان الحزب انسحب من جبهات المواجهة المباشرة ،فهو لم يعد في الجنوب ولم يعد مرتبط بالمساندة لغزة، وهو ما سيؤثر على مدى القبول بدوره بعد هذه الانكفاءات.
3- لكن بالمقابل فان مشروع اسرائيل الكبرى التي طرحها نيتنياهو قد تضع المنطقة في اطار جديد يجبر العداء الاقليمي العربي للقوة الثورية على توظيف التنظيمات العسكرية في المنطقة لدفع نيتنياهو إلى اعادة النظر في مشروعه،وهو ما قد يفتح المجال للحزب للعودة مرة اخرى. إن تصريحات نيتنياهو وما تبعها من اعلانات سموتيرتش عن التهجير وفرض السيادة على الضفة وغزة والتمدد الى لبنان ومصر وسوريا ، يعني ان الحفاظ على امن النظم العربية سيتماهى-كُرهاً لا طوعاً- مع الحفاظ على الكيانات السياسية ذاتها، وهنا قد يجد الشعب نفسه مساندا لهذا التماهي،وهو ما قد يعيد للحزب دورا قد يطلبه خصومه.
كنت وما زلت من الذين يتمنون طول الحكم لنيتنياهو، فقد اربك الساحة الداخلية الاسرائيلية بقدر لم تعهده، وها هو "باسرائيله التوراتية الكبرى" يقض مضاجع جواره الاقليمي، وها هو يستدعي تباعا العالم كله للتورط في احلامه لكنه لا يجد ضالته، وهو ما قد يكون حافزا لبناء تحالفات جديدة قد يُحسن محور المقاومة استثمارها، فالعلاقات الدولية تقوم على قاعدة لا عداوات دائمة ولا صداقات دائمة بل مصالح دائمة.
لقد كان الخطأ الاستراتيجي لهتلر انه استعدى جواره باحلامه ،فاضطروا رغم أنفهم للتحالف ضده مع ستالين ، فهل يتكرر المشهد وننتقل من عمى عقدة التفوق الآري والمانيا فوق الجميع الى عمى التفوق الروحي "بالشعب المختار" فيتحد الخصوم العرب بينهم ،فالضرورات تبيح المحظورات....ربما.






