في ليلةٍ من ليالي ذي الحجة، وبينما كانت الكعبة تضيء السماء بنورها، وغبار عرفة يختلط بالدموع الصادقة من وجوه الحجاج الطاهرين، أرخيت جفوني على وسادة الأمل، متكئًا على قلبٍ أثقلته أوطانُه، وتركْتُ للعقلِ العنان، فبدأ الحلم…
رأيت الوطن العربي جسدًا واحدًا، ينبض بقلبٍ واحد، يلبس الأبيض كحجّاج بيت الله، خاليًا من السلاح والدخان، لا تُسمَع فيه إلا ترانيم العلم والمعرفة، وضحكات الأطفال في كل زقاق، من غزة إلى عدن، ومن بغداد إلى بنغازي.
في حلمي، كانت شوارع دمشق مزينة بشرفات الياسمين، والسودان يحتفل بمهرجان النيل، وأزقة صنعاء تفيض بالفن والموسيقى. لم تكن هناك حواجز ولا نقاط تفتيش، بل جسور من الأخوّة تمتد فوق كل اختلاف، تزينها آيات من القرآن، وقطعٌ من الشعر الجاهلي، وأقوال من ابن خلدون والمعرّي.
الحج في الحلم لم يكن إلى مكة فقط، بل إلى الضمير العربي، إلى العقل، إلى النور. كأن يوم عرفة صار رمزًا لوقوفنا جميعًا على صعيد الإنسانية، نرفع أيدينا لا نسأل الله فقط، بل نُقسم له أن نكون خير خلف لخير سلف، أن نبني بدل أن نهدم، أن نعلو لا أن ننحني.
في حلمي، لم تكن غزة تحت القصف، بل كانت ميناءً للعلماء والفنانين، فيها جامعة كبرى للفلسفة والفنون، يتخرج منها فتيان وفتيات يصنعون النور. وكانت القدس حرّة، يصلي فيها المسلم والمسيحي والإنساني معًا. وكانت ليبيا موطنًا للفكر لا الميليشيات، والعراق منارةً ثقافية، لا حقلًا للألغام الطائفية. اليمن لم تعد تبكي، بل تغني من صنعاء حتى عدن. والسودان صار واديًا أخضر، يتسابق فيه الطلاب إلى المدارس، لا اللاجئون إلى الخيام.
كأننا في ذروة حلمٍ عربيٍّ لا يشبه سوى أول الدعوات في يوم عرفة، حين يهمس الحاج باسمه ووطنه ودموعه. لم أكن أريد أن أصحو، لأن الحياة في الحلم كانت أكرم.
...لكن حين استيقظت
استيقظتُ على صرخات غزة تحت الأنقاض، على مشهد أمٍّ تحتضن طفلها الشهيد، على أطفال السودان يفرّون من جحيم الحرب إلى صمت الصحارى، على ليبيا الممزقة بين حكومتين لا تريان بعضهما، على صوت الرصاص في شوارع بغداد بدل الشعر، وعلى صنعاء التي باتت تئن، واليمنيين الذين يأكلون من الحلم لا من الخبز.
استيقظت، ولم أجد الحج في عرفات فقط، بل وجدت الملايين من العرب يحجون يوميًا إلى دوائر اللجوء والمنفى والفقر والخذلان. عرفتُ حينها أن الحلم جميل، لكنه ليس كافيًا، وأن الواقع يحتاج منا أكثر من الدموع… يحتاج صحوةً لا تشبه اليقظة المؤلمة.
فهل سيأتي يومٌ نصحو فيه فنجد أن الحلم أصبح واقعًا؟
كابتن أسامة شقمان