كنت في منتصف الثلاثينات من عمري حين وطأت قدماي أبوظبي لأول مرة، في مطلع الثمانينات. كانت الشمس تسكب ذهبها على طرقٍ لم تُعبد بعد، والمباني تتوزع على استحياء كأنها لا تريد أن تُفسد اتساع السماء. لا ضجيج. لا عجلة. فقط هدير بعيد لبحرٍ يراقب المدينة وهي تكبر كطفلٍ يتعلم المشي على الرمل.
جئت يومها زائرًا بين رحلتين. لا عمل ينتظرني، ولا ميعاد يلزمني. مشيت على الكورنيش الذي لم يكن بالكورنيش بعد، وجلست على صخرة أراقب البحر. كان الأزرق صافيًا، بلا شوائب… كأن الماء يعرف المدينة ويشبهها.
عدتُ إليها بعد عقدين من الزمن، في 2005، وأنا أرتدي زيّ طيران الخليج، أتنقل بين العواصم، لكنّي كنت أهبط كل مرة على مدرج هذه المدينة وأتنفس، كما لو أن قلبي لا يعمل إلا هنا.
من أبوظبي، كنت أطير إلى الشرق، حيث الغابات الكثيفة في جنوب شرق آسيا، وإلى الغرب، نحو أوروبا الباردة، وإلى قلب الشرق الأوسط، حيث الأصوات ترتفع والقصص تتغير كل يوم. كنت أشهد الفصول تتبدل بين قارة وأخرى، لكن حين أعود… كانت المدينة تُبقي إيقاعها ثابتًا، هادئًا، كأنها تذكّرني بأن التغيّر لا يلغي الثبات، وأن الإنسان يمكن أن يحلّق بعيدًا دون أن يفقد جذره.
في كل مرة كنت أُمنح فيها بضعة أيام دون طيران، كنت أختار البقاء. لا لأن الجسد متعب، بل لأن الروح تحتاج هذا الصمت. أمشي في شارع الكرامة، أتناول قهوتي في حي الخالدية، أو أجلس على شرفة مطعم مطل على الميناء… ولا أفعل شيئًا. فقط أكون.
في أبوظبي تعلّمت أن الهدوء ليس فراغًا، بل امتلاءً عميقًا لا تراه العين. المدينة لا تتوسّل إعجابك، ولا تستعرض نفسها. إنها تعرف أنها كريمة الحضور… تحضر بكاملها دون أن تُعلن عن نفسها.
في أحد المطاعم الشعبية، جلست على طاولة خشبية قديمة. جاء رجلٌ مسن من الجالية الفلبينية وجلس قُربي. لم نتحدث. فقط تبادلنا نظرة وابتسامة، ثم أكلنا في صمت. كان شعورًا غريبًا… لم أكن غريبًا، ولم يكن الصمت بُعدًا. كان قربًا من نوعٍ آخر، قربًا لا يزاحم.
كل شيء في هذه المدينة يقول لك: لا تقلق، لن نؤذيك.
الشرطي يبتسم. الموظف يرحب بك قبل أن يسألك. الأطفال يلعبون دون أن يخافوا. والمقاهي لا تغلق في وجهك حتى لو جلست بلا طلب، كأن المدينة تعاملك كصديق قديم لا يحتاج إلى إذن للبقاء.
أبوظبي ليست المدينة التي تبهر، بل التي تحتضن. ليست التي تُبهجك بالمفاجآت، بل تُطمئنك بالاستمرارية. لم ترفع صوتها لتقنعني بشيء، لكنها جعلتني أعود وأقيم فيها ثلاث سنوات… لأني وجدت فيها شيئًا نادرًا: الأمان.
في مدن كثيرة، تشعر أن عليك أن تُثبت نفسك. أن ترفع صوتك، أن تسرع، أن تتنافس على كل شيء… حتى على الهواء. أما في أبوظبي، فأنت مقبول كما أنت. وكأن المدينة تقول لك: "دعك من إثبات الوجود… وجودك يكفي."
إلى أبنائي، إلى أحفادي، وإلى من تصل إليه هذه الكلمات:
في زمن ترتفع فيه الأصوات، ويُقاس الحضور بالصخب، تذكّروا أن بعض النفوس لا تحتاج أن تصرخ لتُسمع، وأن بعض المدن، مثل بعض القلوب، لا تطرق الأبواب… لأنها دومًا مفتوحة.
لا تخافوا من الصمت. ففي الهدوء، ما لا تخبركم به المدن الصاخبة.
أبوظبي… ليست مكانًا مررتُ به، بل وطنٌ مرّ بي وأعادني إلى نفسي.