أخبار البلد - في السياق العام للإجراءات غير المتوقعة التي تتّخذها، قرّرت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في الشهر الماضي (مارس/ آذار)، إنهاء كل التمويل لوسائل الإعلام الممولة من الحكومة، وشمل القرار وسائل الدعاية الأميركية، ومنها قناة الحرّة وقنوات إذاعية ومواقع إلكترونية كانت تتولى ترويج الرؤية الرسمية الأميركية في العالم. ولم تكن تجربة "الحرّة" مميّزة أو مؤثّرة، بداية من ملابسات ظهورها في سنة 2004 إثر الغزو الأميركي للعراق، وكان الطموح هو سد ما اعتبرته واشنطن عجزاً في التواصل من جانبها مع العالم العربي الإسلامي.
لاستخدام وسائل الإعلام أداة للسياسة الخارجية الأميركية تاريخ طويل. وهكذا، كجزء من استراتيجيّتهم لاحتواء الشيوعية، أنشأ الأميركيون جهاز إعلامياً هجومياً للغاية في أثناء الحرب الباردة، وكان محوره الرئيسي إذاعة أوروبا الحرّة. ومن الصعب تقييم تأثير هذه الاستراتيجية الإعلامية على انهيار الاتحاد السوفييتي؛ ولكن لا ينبغي التقليل من أهمية دور وسائل الإعلام الغربية الموجهة نحو الاتحاد السوفييتي السابق ودول الكتلة الشرقية السابقة.
وبالفعل، كانت الإدارة الأميركية مسلحة بهذه القناعة، التي بالغت في تقدير دور وسائل الإعلام خلال الحرب الباردة، عندما بادرت بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول (2001) إلى إطلاق حملة دبلوماسية عامة تستهدف العالم العربي، مُسلّطة الضوء على القيمة نفسها التي جعلت استراتيجيتها الإعلامية ناجحة ضد الاتحاد السوفييتي، وهي الحرية، وهو ما يفسّر الاسم الذي أطلق على قناة الأخبار الناطقة باللغة العربية "الحرّة". لكن القياس بين العالم العربي والاتحاد السوفييتي السابق مضلل، ففيما كانت الولايات المتحدة تمثل بالنسبة لغالبية الرأي العام في الكتلة الشرقية مثالاً أعلى وأملاً، فإن الولايات المتحدة لا تحظى بالإعجاب في الشارع العربي، بل هي في المخيال السياسي العربي داعمة للاحتلال ولأنظمة الاستبداد، وهو ما يجعل كل وسيلة إعلام ترتبط بالجهاز الدعائي الأميركي فاقدة للمصداقية. ولأن الدول العربية خاضعة فعليا للنفوذ الأميركي، فإن إقناع الجمهور العربي بمقولة الحرّية تعني واقعيا التحرّر من هيمنة هذا النفوذ والأنظمة الخاضعة له، فإذا اضفنا إلى هذا العامل سوء أداء القناة وافتقادها الحرفية، بل وانحيازها الفاضح للاحتلال الصهيوني وعداءها المعلن للمقاومة، فمن الطبيعي أن تكون الأقل مشاهدة في المنطقة، وهو ما يعني أنها الأقل تأثيراً وفعالية.
"الحرّة" يديرها صحافيون لا يؤمنون بوحدة العالم العربي بل ويحاربون هذه الفكرة
كانت الرغبة في الحدّ من نفوذ قناة الجزيرة في العالم العربي واضحة جداً في المشروع الأولي لقناة الحرّة. في الواقع، الفكرة القائلة إن "معاداة أميركا" في الشرق الأوسط هي في المقام الأول من صنع وسائل الإعلام تسيطر على أصحاب القرار الأميركي، غير أن المفارقة في أن التموضع التحريري لقناة الجزيرة في الفضاء العام العربي ارتكز على إعلاء قيمة الحرّية التي أرادت الإدارة الأميركية وضعها في قلب استراتيجيتها الاتصالية تجاه العالم العربي.
وعلى النقيض من "الجزيرة" التي تحاول أن تعطي لكل برامجها طابعاً عربياً قومياً، فإن "الحرّة" يديرها صحافيون لا يؤمنون بوحدة العالم العربي، بل ويحاربون هذه الفكرة ويقدّمون نموذجا إعلاميا لأيديولوجية "الانعزالية العربية" التي تتوافق مع استراتيجية الإدارة الأميركية في التعامل مع كل دولة عربية على حدة عن الدول الأخرى. خضعت الأفكار التي جرى تسويقها في برامج قناة الحرّة بشكل تام لاتجاهات السياسة الأميركية، ورغم تبنّي شعارات الحرّية والتعدّدية فقد كان ضيوف القناة الدائمون ينتمون إلى التيار النيوليبرالي العربي وتقصي كل صوت مخالف.
ونظراً إلى انخفاض معدلات مشاهدة قناة الحرة في العالم العربي، والافتقار إلى الاهتمام الذي يبدو أنها تثيره بين المشاهدين الناطقين بالعربية، وهشاشة مكانتها في المجال الإعلامي الإقليمي، ومع القرارات الأخيرة التي اتخذتها إدارة ترامب بوقف تمويل هذه القنوات، والتوجه نحو سياسة خارجية تُركز على النفوذ الاقتصادي، والشراكات العسكرية، والانسحاب الاستراتيجي، فقد أصبح مؤكّداً لجوء الولايات المتحدة إلى استراتيجية التأثير غير المباشر. وهكذا، فإن إعادة توجيه استراتيجيتها الإعلامية تجاه العالم العربي تعتمد بشكل أساسي على وسائل الإعلام العربية التي يسيطر عليها حلفاؤها في المنطقة. ومن خلال التخلي عن "التواصل المستقل" مع العالم العربي، والاعتماد على الأدوات الإعلامية لحلفائها الإقليميين، تعترف الولايات المتحدة بأولوية السياسة على الإعلام، وبالتالي، تعبّر عن تفضيلها الاستقرار والوضع الراهن في الشرق الأوسط. ويبدو أن استخدام وسائل الإعلام مرافقة التحولات أو المبادرة بها في المنطقة قد جرى التخلي عنه، وذلك أساسا بسبب استحالة أن يكون الأميركيون سادة اللعبة الإعلامية في المنطقة، من دون أن ننسى طبيعة التوجّهات الجديدة للإدارة الاميركية التي ترى أن القوة الناعمة فشلت في تحقيق مكاسب ملموسة في المنطقة، وأن مليارات الدولارات من المساعدات لم تُؤدِّ إلى استقرار دائم، وأن من الأفضل تجنُّب الالتزامات المُعقّدة والمفتوحة، والتركيز على نتائج واضحة وتفاعلية لتحقيق الأهداف الجيوسياسية.
قناة الحرة: نهاية بائسة
