خلال سنوات الانقسام الثمانية عشر، سمعنا الخطاب ذاته والمطالب ذاتها، لكن المنادين به، والساسة من خلفهم، لعلهم لم يدركوا أنه من الخطأ تكرار ذات الأمر، بذات الأسلوب، مع توقع نتيجة مختلفة، وبكلمات أخرى، إنهم لم يدركوا بأن الأمر الذي لم يكتب له "النجاح" خلال قرابة عقدين، وفي ظل ظروف مختلفة تماماً، قد لا يكتب له النجاح الآن، أو لربما من الصواب القول أنه ليس بالضرورة أن يكون قابلاً للتطبيق في هذا الظرف "الاستثنائي" الذي تمر به الأراضي الفلسطينية عموماً، وقطاع غزة خصوصاً.
في خضم التحولات السياسية المتسارعة، تصاعدت الدعوات مرة أخرى، وبوتيرة أعلى، لتسليم الحكم في قطاع غزة إلى السلطة الفلسطينية، باعتبارها واجهة الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وحيث أنه لا خلاف على صوابية هذا الطرح من حيث المبدأ، بمعنى أن غزة - كما باقي الأرض الفلسطينية - من الطبيعي أن تكون تحت ولاية سلطة واحدة تمثل الشعب الفلسطيني.
ثم أن هذا المطلب بدوره يفتح الباب أمام نقاش جوهري، ويتطلب توضيحات أساسية، تتعلق أولاً بطبيعة وشكل السلطة المطلوب عودتها، وكذلك سياستها، تجاه قطاع منهك مدمر بفعل العدوان المستمر، وتجاه المسالة الفلسطينية برمتها، إلى جانب مرجعيتها الوطنية، ومصدر شرعيتها.
فهل الحديث عن "عودة السلطة" إلى غزة هو استعادة لوضع سابق، أم أنه حديث عن عودة ثمثل ثمرة أو تتويجاً لرؤية وطنية جديدة، تعيد تعريف دور السلطة، أي سلطة، بوصفها جهازاً تنفيذياً وطنياً جامعاً، لا ذراع بيروقراطياً او أمنياً، محصوراً – حالياً - بالضفة الغربية، أو تشكيلاً وظيفياً محكوماً باتفاقات قيدت حركته وأفرغته من مضمونه التحرري؟
على مدار سنوات الانقسام الطويلة، كانت السلطة الفلسطينية موضع انتقاد متواصل بشأن إدارتها للملف الوطني عموماً، ولقضية غزة خصوصاً، وتراوحت هذه الانتقادات – دون الجزم بدقتها – بين اتهامات بفرض عقوبات مالية، وعجز عن بلورة خطة وطنية تحظى بقبول شعبي، تستوعب قطاع غزة كمكون أصيل من مكونات الوطن، وانطلاقًا من ذلك، فإن الحديث عن تسليم الحكم في غزة لا يجوز أن يختزل في كونه "إجراء إداريا"، بل يجب أن يفهم كجزء من مشروع سياسي واضح المعالم، يحظى بإجماع وطني، ويعيد للقطاع مكانته كشريك فعلي في القرار والمصير.
فاذا أريد للسلطة أن تكون سلطة كل الفلسطينيين، فلا بد أن يطال التغيير مرجعيتها، لتتحول من كونها سلطة هي نتاج اتفاق أوسلو، إلى سلطة ذات مرجعية وطنية توافقية تستند إلى مخرجات حوار وطني شامل، وميثاق سياسي يقوم على قاعدة الحد الأدنى من المقبول وطنياً، وهذا يعني بالضرورة إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتكون مظلة فلسطينية جامعة، وتوسيع قاعدة تمثيلها لتشمل جميع القوى والفصائل الفلسطينية التي ظلت خارجها.
فلقد عانت المنظمة طوال العقود الماضية من خلل بنيوي طال طابعها التعددي، فضلاً عن الشلل المؤسساتي لأسباب عدة، وفي مقدمتها دورية انعقاد الأطر الناظمة لها، وخاصة المجلس الوطني الفلسطيني، الذي لم ينعقد خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلا في سياقات طارئة أو لإنجاز مهام محددة، ما حد من دوره بوصفه الهيئة التمثيلية التشريعية العليا للشعب الفلسطيني بأسره، والى جانب ذلك، غياب آليات واضحة وفعالة لمساءلة القيادة أو تجديد شرعيتها، وبالتالي، بات التمديد التلقائي للأعضاء والقيادات دون انتخابات أو مشاورات جدية هو النمط السائد، ما جعل المنظمة تفتقر إلى التمثيل الحقيقي، وأفشل محاولات إعادة بنائها على أسس وطنية جامعة.
وعليه، فإن أي عملية انتقال، لا ينبغي لها ان تتم على قاعدة "سلطة تحل مكان سلطة"، بل على قاعدة "سلطة واحدة تضم الجميع"، وتمثل إرادة الشعب الفلسطيني بكافة مكوناته، وتعبر عن مشروعه الوطني المشترك، وتفتح المجال أمام شراكة سياسية حقيقية.
وبالتالي، فإن سلطة بهذا التوصيف، تحتاج إلى شرعية وطنية وتفويض شعبي، وأن أي حديث عن استلام السلطة الفلسطينية للحكم في غزة يصبح مشروطاً بسمار وطني انتقالي توافقي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تمثل الجميع، وتقبر سنوات الانقسام، وفي حال تعذر إجراء الانتخابات في المدى القريب بسبب التعقيدات السياسية والاحتلال، قد يكون من الممكن الاستعاضة عن ذلك بالخيارات الممكنة، وعلى هذا الأساس، يعد هذا التوافق الوطني الجامع مخرجا – مؤقتا - للوصول الى شرعية انتقالية، تليها استحقاقات ديمقراطية حقيقية تعيد للشعب الفلسطيني حقه في اختيار ممثليه.
وعليه، فإنه ما لم تكن الدعوة إلى تسليم الحكم في غزة للسلطة الفلسطينية كجزء من برنامج إصلاح سياسي مؤسسي، وتقدم ضمن سياق وطني توافقي، فإنها ستفتح فصلاً جديداً من الانقسام الفلسطيني، أشد التباساً، وأكثر استعصاء، وستكون هذه العملية عبارة عن إعادة إنتاج لسلطة بشكلها الحالي، في حين أن المطلوب إعادة تأسيسها على أسس الشراكة والتوافق والتمثيل الوطني الشامل، بحيث تصبح سلطة تمثل طموحات الشعب الفلسطيني، قادرة على حشد الشارع خلفها، لا سلطة إدارة ذاتية تحت سقف محدد ومعروف مسبقا.