أخبار البلد - بينما كان الشاب ياسر الرشايدة (35 سنة) يستمتع بمشاهدة صغيره محمد ابن السبع سنوات يلهو ويضحك مع خرافه في منطقة وادي الكراس في بادية الضفة الغربية جنوب شرقي مدينة بيت لحم حيث الطبيعة الخلابة، فجع خلال ثوانٍ برؤية طفله جثة هامدة بعد ملامسته جسماً مشبوهاً كان في المكان، ليتضح في ما بعد أن لغماً خلفه الجيش الإسرائيلي أثناء تدريباته العسكرية في المنطقة، انفجر بجسد الصغير بعدما ظن أنها لعبة.
وتفيد معطيات معهد الأبحاث التطبيقية "أريج" بأن نحو 10 في المئة من مساحة بلدة عرب الرشايدة التي تقارب 48 مليون متر مربع مصنفة مناطق (جيم) و80 في المئة منها مصنفة محميات طبيعية، ومناطق إطلاق نار يحظر دخولها، وجميعها تخضع لسيطرة إسرائيلية كاملة.
وعلى رغم إقامة غالبية سكان منطقة عرب الرشايدة منذ عام 1983 في بيوت متواضعة لا تنعم بالكهرباء أو البنية التحتية وتفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الإنسانية وتواجه خطر التهجير كل يوم، فإن قرابة 80 عائلة فلسطينية لا تزال تصر على العيش في المنطقة التي عادة ما يستخدمها الجيش الإسرائيلي للتدريب والرماية، ويخلف وراءه قذائف وقنابل لم تنفجر، وتشكل خطراً كبيراً على السكان، فيما لا يستطيع المزارعون الوصول إلى أراضيهم وفلاحتها أثناء إجراء التدريبات وبعض مزروعاتهم تسحق تحت جنازير الدبابات والمركبات المدرعة.
منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، تضاعفت مخلفات الجيش الإسرائيلي الناتجة من عمليات الاقتحام للمدن والقرى، وباتت تشكل خطراً حقيقياً على الفلسطينيين في أماكن مختلفة، تتركز في مساحات شاسعة من بادية الضفة الشرقية ومناطق الجنوب والأغوار الشمالية، حيث يجري الجيش تدريباته. وبحسب المركز الفلسطيني لمكافحة الألغام، فإن تلك المخلفات أسفرت عن مقتل أربعة فلسطينيين وإصابة نحو 86 معظمهم من الأطفال منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023.
وزرع الجيش الاسرائيلي بذريعة الأمن 51 حقل ألغام في الضفة الغربية، خصوصاً في الأغوار وشمال الضفة وجنوبها وفي المناطق الحدودية للخط الأخضر وحول المستوطنات، وأظهرت معطيات فلسطينية رسمية أن عدد الألغام التي زرعها الجيش في الضفة الغربية منذ عام 1967 يبلغ نحو مليون لغم أرضي.
أظهرت معطيات فلسطينية رسمية أن عدد الألغام التي زرعها الجيش في الضفة الغربية منذ عام 1967 تبلغ نحو مليون لغم أرضي (اندبندنت عربية)
نيران حية
وخلال الأعوام الأخيرة، درجَ الجيش الإسرائيلي على إخطار السكان قبل إجراء التدريبات في محيط مساكنهم، طالباً منهم إخلاءها وأخذ مواشيهم معهم، وكانت هذه الإخلاءات تثقل على السكان وتعرقل مجرى حياتهم الاعتيادي وتعرضهم للأخطار، غير أن الجيش خلال الأعوام الأخيرة يمتنع في كثير من الأحيان عن اتخاذ مثل هذا التدبير الأساسي، فبدأ يجري تدريباته قرب منازل السكان من دون إخطارهم مسبقاً وهو يدرك أنه بذلك يعرض حياتهم للخطر.
ووثق مركز المعلومات الإسرائيلي في المناطق المحتلة (بتسليم) خلال الأشهر الأخيرة، تدريبات عسكرية شملت نشر قوات من سلاحَي المشاة والمدرعات وإطلاق قذائف صاروخية واستخدام النيران الحية في أراضٍ زراعية تمت فلاحتها وفي المراعي وقرب المنازل، بالتزامن مع إغلاق الطرق التي يستخدمها السكان الفلسطينيون بمكعبات الأسمنت وتطلق النيران الحية.
ويرى مراقبون أن تواتر التدريبات العسكرية بصورة مكثفة بعد السابع من أكتوبر بين القرى والبلدات وداخل المراعي والأراضي الزراعية لا يقلص المساحات المتوافرة للرعاة ويتلف المزروعات فحسب، بل يمس بمصادر رزق السكان كذلك، إذ يضطرون إلى شراء الأعلاف لقطعانهم بديلاً عن الغذاء الذي توفّر لها سابقاً في المراعي الطبيعية، مما اعتبره حقوقيون ونشطاء في منظمات إنسانية ودولية "جزءاً من سياسة تتبعها إسرائيل منذ أعوام طويلة سعياً منها إلى تهجير سكان التجمعات الفلسطينية التي يسكنها آلاف الفلسطينيين عبر فرض واقع معيشي لا يطاق يوقعهم في اليأس ويدفعهم إلى الرحيل وكأنما بملء إرادتهم"، خصوصاً أن صمود السكان قرب مناطق التدريبات العسكرية وبقاءهم في منازلهم يعني تعرضهم يومياً لآثار السياسة القاسية الموجهة ضدهم عبر التدريبات العسكرية المتكررة التي قد تشمل هدم المنازل وعنف المستوطنين والحرمان من الخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه.
مخلفات الجيش العسكرية وسيناريوهاته المتخيلة في الضفة الغربية تهدد حياة الفلسطينيين (اندبندنت عربية)
ويعيش حالياً نحو 6200 فلسطيني في المناطق المخصصة للرماية والتدريبات في الضفة الغربية ويتوزعون على 38 قرية ويعتاشون من رعي الماشية والعمل في الزراعة، ووفقاً للأرقام فإن نحو 18 في المئة من أراضي الضفة الغربية تعتبر مناطق عسكرية مغلقة ومخصصة للتدريبات العسكرية، وهي توازي حجم منطقة (أ) التي تتبع للسلطة الفلسطينية مدنياً وأمنياً والبالغة 17.7 في المئة من أراضي الضفة. ويعتبر الاتحاد الأوروبي أن ما يجري بحق الفلسطينيين في المناطق المخصصة للرماية والتدريب العسكري "ترحيلاً واقتلاعاً قسرياً يتناقض مع القانون الدولي"، وقال الاتحاد في تصريح مكتوب "لا يمكن اعتبار إنشاء مناطق إطلاق نار، سبباً عسكرياً حتمياً لنقل السكان الواقعين تحت الاحتلال".
وقالت حركة "السلام الآن" اليسارية الإسرائيلية (غير حكومية) في تدوينة على منصة "إكس" في وقت سابق "إسرائيل تواصل جهودها لطرد الفلسطينيين". وفيما يؤكد خبير الأراضي والاستيطان عبدالهادي حنتش أن مناطق التدريب العسكرية صممت ضمن "سياسة ممنهجة للتوسع على خطوط التماس على حساب المواطنين الفلسطينيين"، يقول الجيش إن "الأهمية الحيوية لمناطق إطلاق النار بالنسبة إلى جيش الدفاع تنبع من الطابع الطبوغرافي الفريد وسماته الجغرافية المميزة التي تسمح بطرق تدريب ومناورات عسكرية خاصة بكل من الأطر الصغيرة والكبيرة، من فرقة إلى كتيبة"، مؤكداً أن مناطق التدريب العسكري والرماية محددة مع مراعاة الاعتبارات المهنية.
لم تشهد مدينة طولكرم مثل هذا العدد من الغارات الجوية منذ عام 1948 (اندبندنت عربية)
سيناريوهات وتحديات
لم تقتصر عمليات التدريب العسكري على الرماية وإطلاق الذخيرة الحية، إذ أجرى الجيش الإسرائيلي في أبريل (نيسان) الماضي تدريبات عسكرية مكثفة في منطقتين واسعتين على مقربة كبيرة من الحدود مع إسرائيل شمال الضفة الغربية، كانت الأولى في مدينة قلقيلية والثانية في مدينة طولكرم، وهي تدريبات غير مسبوقة تحاكي سيناريوهات صد هجوم فلسطيني شبيه بما نفذته "حماس" في السابع من أكتوبر على مستوطنات غلاف غزة، شاركت فيه قوات متنوعة وكبيرة من الجيش والشرطة وحرس الحدود والاستخبارات والجبهة الداخلية. وحاكت التدريبات التي نسجت سيناريوهاتها المنظومة الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية مهاجمة مجموعات من المسلحين الفلسطينيين من قلقيلية، مدينتي كفار سابا ورعنانا والبلدات اليهودية المجاورة، كما وضعت سيناريوهات لهجوم موازٍ من مجموعات أخرى من مدينة طولكرم وبلدة شويكة لمدينة نتانيا الإسرائيلية التي لا تبعد منها سوى كيلومترين فقط. ومنذ السابع من أكتوبر عام 2023، تخصص القوات الإسرائيلية في ما بات يطلق عليه إسرائيلياً "غلاف طولكرم"، دوريات عسكرية تراقب الحدود مع الضفة الغربية على مدى 24 ساعة بهدف منع تسلل فلسطينيين إلى إسرائيل. وبحسب المقدم ليئور دوفيت الذي قاد التدريبات الأولى فإن "الجيش اختبر الخطط التي وضعت منذ السابع من أكتوبر لمنع هجمات فلسطينية شبيهة. وفحص خلال ذلك سبل التأكد من أن الجيش على أهبة الاستعداد لكي يضمن ألا يتم تكرار الإخفاقات الأمنية في غلاف غزة". وأضاف "نحن هنا في منطقة حساسة، نسميها غلاف طولكرم ، حيث توجد مدن كبرى يعيش فيها وفي محيطها مئات آلاف السكان الإسرائيليين، ويوجد شارع 6، وهو الطريق العابر لإسرائيل من شمالها إلى جنوبها، وتمر عبره يومياً نحو مليون سيارة، وهدفنا ألا يداهمنا الخطر وألا يباغتنا الأعداء مرة أخرى".
يعيش حالياً نحو 6200 فلسطيني في المناطق المخصصة للرماية والتدريبات العسكرية في الضفة الغربية ويتوزعون على 38 قرية (اندبندنت عربية)
وأعلن الجيش الإسرائيلي في بيان مشترك مع جهاز الأمن العام (شاباك) اليوم الخميس انتهاء العملية العسكرية التي استمرت يومين في مدينة طولكرم، قتل خلالها سبعة فلسطينيين. ووفقاً لمحللين، لم تشهد مدينة طولكرم مثل هذا العدد من الغارات الجوية منذ عام 1948، إذ شهد اليوم الأول للعملية العسكرية بحسب شهود عيان فلسطينيين، أربع غارات جوية من طائرات حربية استهدفت مخيمي طولكرم ونور شمس للاجئين الفلسطينيين. وسبق أن هدد وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بتحويل مدينة طولكرم إلى مدينة خراب، وقال لمستوطنين في مستوطنات قريبة منها إنه "يجب القضاء على التهديد الذي تمثله طولكرم وأن يختفي من العالم".
حماية الحدود
الخوف من تكرار هجمات "حماس" وارتفاع التهديد من جهة الحدود الأردنية كذلك، دفع الجيش الإسرائيلي إلى وضع سيناريوهات لمواجهة تهديد محتمل أتٍ من الأردن والضفة الغربية عبر عملية تسلل إلى المستوطنات كما حدث في غزة. ووفقاً لقناة "12" الإسرائيلية، يعتزم الجيش إنشاء فرقة شرقية جديدة لحراسة الحدود الأردنية ستكون لديها قدرات فتاكة وإمكانات عسكرية كبيرة. وقال الجيش في بيان أمس الأربعاء "هذا الأسبوع، أُجريَ تدريب في لواء غور الأردن والوديان كجزء من جهود الجيش الإسرائيلي لتعزيز الجاهزية والقدرة العملياتية في منطقة الحدود الشرقية"، مضيفاً أن "التدريب شمل دمج قوات ثابتة وقوات احتياط، بمشاركة وحدات إضافية مثل وحدة يتام ووحدة متيلان التابعة لحرس الحدود ووحدات النخبة في الجيش الإسرائيلي".
اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار إلى أن هدف التدريبات هو "تحسين استعداد القوات لمواجهة مجموعة من السيناريوهات التي تحاكي التهديدات والتحديات المتوقعة في منطقة الحدود الشرقية"، مردفاً أنها "تضمنت استجابات للأحداث الأمنية مثل تهديدات الإرهاب وعمليات التسلل وغيرها". وبحسب بيان الجيش، فقد تم توزيع نحو 7000 قطعة سلاح على المستوطنين، بما في ذلك الرشاشات، في حين أعلنت وزارة الجيش الإسرائيلية نهاية نوفمبر الماضي وضع خطط لبناء "حاجز أمني" على طول الحدود مع الأردن. وقال موقع "واللا" الإسرائيلي قبل أيام إن الجيش يخشى من زعزعة استقرار النظام في الأردن، واستغلال الوضع في الشرق الأوسط من قبل "الجماعات الإرهابية". وزعم الموقع أن العناصر المسلحة في مختلف أنحاء الضفة الغربية، تحديداً في المخيمات بدأت بتشكيل أنماط مختلفة من الجماعات المسلحة، مما دفع الجيش إلى شن عمليات عسكرية موسعة وفرض حصار محكم على المخيمات خشية خلق إطار "إرهابي فاعل"، على حد وصفه.