فاز مرشّح الحزب الجمهوري دونالد ترامب برئاسيات الولايات المتحدة لعام 2024، بعدما حقق انتصاراً واضحاً على مرشّحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس. فقد فاز بـ312 من أصوات المندوبين في المجمّع الانتخابي، بينما كان يحتاج 270 صوتاً فحسب، فيما لم تتجاوز حصّة منافسته الديمقراطية حدود 226 صوتاً. كما تقدّم ترامب على هاريس في التصويت الشعبي بقرابة أربعة ملايين صوت. وكان لافتا نجاح الرجل في زيادة نصيبه من الأصوات في كل الولايات الأميركية، باستثناء ولايتي واشنطن ويوتا، مقارنةً برئاسيات 2020. ففضلا عن تقدّمه بالولايات التقليدية التي تُعدّ الحاضنة الشعبية للجمهوريين، تمكّن ترامب من الفوز في الولايات السبع المتأرجحة: جورجيا وأريزونا وبنسلفانيا ونيفادا ونورث كارولينا وميشيغان وويسكونسن. وبفوزه بنسبة 50.6% من أصوات الناخبين مقابل %47.9 لهاريس، يتربّع ترامب للمرّة الثانية على عرش البيت الأبيض.
وهو بذلك الرئيس الثاني في تاريخ الولايات المتحدة، بعد غروفر كليفلاند، في القرن التاسع عشر، الذي يفوز بولايتين غير متتالتين، وهو الأكبر سنّاًَ، والفائز بالرئاسة رغم ما لحقه من تتبّعات قضائية شتّى. ويحمل الانتصار الكاسح لترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية السّتين طيّه عدّة خلفيات ودلالات.
في مستوى قراءة الخلفيات التي وجّهت كفّة التصويت لصالح دونالد ترامب على حساب كامالا هاريس، يُمكن الوقوف عند معطيات بارزة ساهمت في استقطاب الناخبين، واشتغل عليها كلّ مرشّح بطريقته لكسب أصوات المقترعين، وأهمّ تلك المعطيات الصورة الكاريزمية، ومحامل البرنامج الانتخابي، وطبيعة تفاعل كلّ مرشّح مع ممثّلي المكوّنات البارزة في المشهد الانتخابي.
منذ هزيمته في رئاسيات 2020، جدّ ترامب في ترويج صورة مزدوجة لنفسه، وعمل على تعزيزها في الوعي الجمعي الأميركي، وهي صورة القائد/ المناوئ للمنظومة الديمقراطية الحاكمة، وصورة السياسي، الجمهوري المظلوم في آن. فزاوج بين البطولة والمظلومية في رسم صورته لدى الوعي الجمعي الأميركي. فقد كان صوته عاليا في انتقاد السياسات الداخلية والخارجية لإدارة بايدن ـ هاريس، خصوصا ما تعلّق بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية، وإدارة الحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط. واستغلّ مناظرتة مع جو بايدن ليظهر للناس خبرته بدواليب الحكم، وقدرته على المحاورة، والمحاججة، والمناورة، مؤكّدا حاجة أميركا إلى قائد قوي قادر على استعادة دورها الوازن في المشهد العالمي. كما نجح نسبيّا في تحويل عدّة محاكمات ضدّه إلى فرصة للظهور في صورة الضحية والقول بأنّه يواجه سطوة الدولة العميقة، وبارونات الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، وأنّه محلّ استهداف من خصوم حقيقيين أو وهميين في الداخل والخارج. وتأكّدت صورة الضحية من خلال تعرّضه لمحاولتي اغتيال، وهو ما زاد في عطف القلوب نحوه. ودلّ ذلك على أهمّية تشكيل صورة البطل/ الضحية في توجيه الناخبين نحو التصويت بكثافة لصالح ترامب.
زاوج ترامب بين البطولة والمظلومية في رسم صورته لدى الوعي الجمعي الأميركي
في المقابل، حرصت هاريس على الظهور في صورة القيادية النسوية، التقدمية، المرنة، المنفتحة، الميّالة إلى الدفاع عن التعدّدية والديمقراطية وحقوق النساء، وحاولت اجتراح دور حيوي للمرأة في التنافس على الفوز بأعلى منصب سياسي قيادي في الولايات المتحدة. لكنّها أخفقت في ابتداع صورة سياسية جاذبة خاصّة بها، فقد حافظت على صورة نائبة الرئيس، وبقيت ظلاً لبايدن، ولم تملك الجرأة للتمرّد على سياساته، وبدت مهاراتها التواصلية والإقناعية محدودة، بحسب مراقبين. لذلك أحجم كثيرون عن منحها أصواتهم حتّى في ولايات تعدّ معاقل تقليدية للديمقراطيين.
على صعيد متّصل، كان لمحامل البرنامج الانتخابي للمرشح الجمهوري ومرشّحة الحزب الديمقراطي دور جوهري في توجيه السلوك الانتخابي لدى معظم المقترعين، فتباين وجهات النظر بين المرشحيْن بشأن قضايا حيوية، مثل الاقتصاد، والهجرة، والحقوق الجنسية، والسياسة الخارجية، ساهم في ترجيح الكفة لصالح ترامب في السباق الرئاسي. فمن الناحية الاقتصادية وعدت هاريس بإرساء "اقتصاد الفرص"، ووعد ترامب باعتماد سياسات اقتصادية، تنبني على اعتبار مصالح أميركا أوّلاً، وفي هذا السياق أخبر بتوجّهه نحو فرض رسوم جمركية تراوح بين 10% و20%على جميع الواردات الأجنبية، ورفعها إلى 60% على المنتجات الصينية، وتوظيف عائدات تلك الرسوم لتخفيض الضرائب على الشركات الكبرى وعلى الأثرياء الأميركيين من 21% إلى 15% فقط على نحو يضمن تعزيز الصناعات المحلية، ويدعم أسواق الأسهم الأميركية على المدى القصير.
ولتقليص النفقات الحكومية، أعلن ترامب نيّته خفض الدعم المقدم للطاقات المتجددة ودعم إنتاج النفط والغاز، وإحداث "وزارة كفاءة الحكومة"، بهدف تخفيض الإنفاق الحكومي بنسبة تصل إلى 30%، أي ما يعادل حوالي تريليوني دولار سنويًا. ووعد بإلغاء الضرائب على دخل الضمان الاجتماعي، وعلى الإكراميات والعمل الإضافي. ومع أنّ تلك التدابير قد تزيد من كلفة الإنتاج، وتحدّ من فرص الاستثمار الأجنبي، وترهق الموازنة العامّة، فإنّ تلك الوعود بنموذج اقتصادي أفضل لقيت قبولا لدى جلّ الناخبين. بالمقابل حافظت كامالا هاريس عموما على توجّهات بايدن الاقتصادية، وركزت على زيادة الإنفاق الاجتماعي، وتعزيز الرعاية الصحية، وتطوير البنية التحتية، ومواصلة سياسات تحول الطاقة، وإعطاء الأولوية لمكافحة تغيّر المناخ ودعم اعتماد الطاقات المتجددة، وتمويل ذلك من اعتماد تدابير تجارية حمائية خصوصا مع الصين، وفرض ضرائب على مداخيل الأغنياء والشركات الكبرى تصل إلى حدود 28%. ويبدو أن تلك الخيارات لم تجد التجاوب المأمول من الناخبين. ودَلّ تصويتهم المكثف لترامب على عدم رضاهم عن أداء إدارة بايدن ـ هاريس الاقتصادية.
كان لمحامل البرنامج الانتخابي للمرشح الجمهوري ومرشّحة الحزب الديمقراطي دور جوهري في توجيه السلوك الانتخابي لدى معظم المقترعين
ومثّل ملفّ التعامل مع الهجرة غير النظامية نقطة خلافية بين ترامب وهاريس، وعاملا مؤثّرا في توجّهات الناخبين. ففي وقت دعت فيه مرشّحة الحزب الديمقراطي إلى معالجة تفهّمية، شاملة لمسألة الهجرة غير الشرعية، انصرف ترامب إلى اتهام إدارة بايدن ـ هاريس بالتساهل مع تدفقات المهاجرين غير النظاميين، وعدم القدرة على ضبط الحدود. وروّج لاعتبار الهجرة السرية خطرا داهما يهدّد هوية المجتمع الأميركي وأمنه ونمط عيشه، وحمّل المهاجرين مسؤولية انتشار الجريمة ومحدودية مواطن الشغل في بلاده. ووعد بترحيل الآلاف منهم، واعتماد "فحص أيديولوجي" للمهاجرين، يفتّش في خلفياتهم الفكرية والعقدية في حال وصوله إلى الحكم. ومع أنّ هذا التصوّر يؤدّي إلى نقص اليد العاملة وعطالة قطاعات حيوية كالبناء والزراعة التي يشتغل بها جلّ المهاجرين غير المسجّلين، فإنّه وجد هوى لدى عدد معتبر من الناخبين المحافظين والمستقلّين الذين منحوا ثقتهم لترامب بدعوى قدرته على تأمين الحدود والتعامل بصرامة مع ملفّ الهجرة غير النظامية. ودلّ ذلك على تنامي الخط الانعزالي داخل الاجتماع السياسي الأميركي، واتساع دوائر كراهية الأجانب في البلاد.
وفي خصوص المسألة الجنسية، انتقدت هاريس منْع الإجهاض في الولايات التي يقودها الجمهوريون، ودعت الكونغرس إلى إصدار تشريع يضمن حق الإجهاض في القانون الفيدرالي، بدعوى أنّ المرأة تملك جسدها، وتبنّت الدفاع عن المثلية وعن المتحوّلين جنسيا. في المقابل، أبدى ترامب تحفّظاته إزاء الإجهاض والمثلية، ورفضه عمليات التحوّل الجنسي، ووعد بأنّه "سيطلب من الكونغرس تمرير مشروع قانون ينص على أن الولايات المتحدة تعترف بـ"جنسين فقط"، يتم تحديدهما عند الولادة". وساهم ذلك في زيادة حظوته لدى المحافظين عموما، والمتديّنين خصوصا، ودلّ على أنّ الجانب القيمي كان مؤثرا في توجيه سلوك الناخبين وانحيازهم إلى أجندة ترامب.
حاولت هاريس استمالة اليمين والجمهوريين لكنها لم تفلح في ذلك على النحو المأمول، ما عجّل في حسم السباق الرئاسي لصالح ترامب
كما لعبت طبيعة تعامل المرشّحين مع ملفّ السياسة الخارجية دورا جوهريا في تحديد مواقف الناخبين. فانحياز إدارة بايدن ـ هاريس إلى إسرائيل، وغياب رؤية مستقبلية واضحة بشأن الحرب الروسية/ الأوكرانية، وعجزها عن فرض وقف إطلاق النار في غزّة ولبنان، أثار غضب كثيرين من الديمقراطيين، واليساريين، والعرب، والمسلمين، ودفعهم إلى تصويت عقابي ضدّ هاريس التي بدت متردّدة في إلزام نتنياهو بإيقاف الحرب، وفشلت في فكّ الارتباط بسياسة بايدن الخارجية. في المقابل، كان ترامب صريحا في اتهام بايدن ـ هاريس بـ"إشاعة الفوضى والعمل على إشعال فتيل حرب عالمية ثالثة"، وكان حازما في الوعد بإيقاف الحروب وإقرار السلام. فالتفت إليه الناخبون بكثافة بحثاً عن رئيس قوي، يصنع السلام العادل المنشود. ودلّ ذلك على أنّ جدلية الحرب والسلم كانت فاعلة في تحديد وجهة المقترعين.
على صعيد آخر، نجح ترامب في عقد تحالفات مع ممثّلي جاليات مختلفة، مثل المسلمين، واليهود، والأفارقة، واللاتين، واستقرب العمّال والأقليات، وكان قريبا من الناس، وهو ما زاد من شعبيته. في حين ركّزت هاريس على شيطنة ترامب واعتباره خطراً على الديمقراطية، وحاولت استمالة اليمين والجمهوريين لكنها لم تفلح في ذلك على النحو المأمول. وهو ما عجّل في حسم السباق الرئاسي لصالح ترامب.
ختاما، من المهم أن يتعامل صناع القرار في العالم العربي مع ترامب بذكاء وبراغماتية، تراوح بين الاحتواء والتعاون البنّاءعلى أساس خدمة المصالح المشتركة، وفي مقدّمتها الأولويات الاقتصادية والاستراتيجية، وإقرار حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلّة.