ليست كيفية حساب قيمة الإنسان استفسارًا فلسفيًا بقدر ما هي سؤال متأصل بعمق في السرديات السياسية والاجتماعية في عصرنا المضطرب. ويصبح السؤال ملحًا عندما يتعلق بقيمة الفرد في سياق الصراع على امتلاك الرواية وكتابة التعريفات، وما ينتجه ذلك من الاعتراف بوجوده أو التسامح مع إخراجه من العالم. في عالمنا الآن، لم تعد التأملات الفكرية جزءًا من مسعى مدفوع بالفضول لمعرفة الذات والعالم. لقد تم تسليح الفكر وتسليعه ليكون أدوات قابلة للشراء في معركة الهيمنة، مهمتها صياغة النظرية، والتبرير والتبييض وخداع الضمير.
في الصراع والتنافس اللذين يُعرّفان أكثر ما يكون طبيعة النشاط البشري في العالم، تسود سردية المنتصر، التي تُسنِد إليه وإلى مساعيه كل القيم الإيجابية، بينما تخفض قيمة «الآخر» المهزوم إلى حدود نفيه من الإنسانية. وكثيرًا ما يُختزل التقييم في نسبة الفرد إلى تصنيف ضمن ثنائيات متعارضة: الخير/ الشر؛ الحضارة/ الهمجية؛ النور/ الظلام... وهكذا. ويعرض الصراع التحرري الفلسطيني مع الاستعمار الصهيوني والقاعدة الإمبريالية الأوروبية التي تسنده، حالة مثالية للكيفية التي يتم بها تسعير الناس على جانبي الصراع، وما تنطوي عليه العملية من تحيزات قاهرة ومظالم منهجية.
في هذا الفصل غير المنفصل عن سياقاته من الصراع، تركزت سردية الحرب العدوانية الحالية– العالمية تقريبًا- التي يتصدرها الكيان الصهيوني على الفلسطينيين، على ثيمة «الرهائن» باعتبارهم كل القصة. في كل خطاب تقريبًا، وقبل التعبير عن أي تعاطف ممكن مع الضحايا الفلسطينيين إن وُجد، نسمع عبارة «إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين فورًا من دون قيد أو شرط». وكأن الاهتمام بـ»الرهائن»، هو معيار أخلاقية المرء وتحضره ونزاهته. بل إن مسؤولين عربًا يذكرون في تصريحاتهم «الإفراج عن الرهائن» ليعطوا لتصريحاتهم مصداقية وقيمة، ولو أن ذلك يخفض عمليًا قيمة الفلسطيني، والعربي، ومواطن الجنوب العالمي، ومن يمثلونهم جملة وتفصيلًا. إن كل هذه الخطابات لا تشير إلى الرهائن الفلسطينيين المخطوفين– حرفيًا- من غزة والضفة خلال هذه الحرب وحدها بالآلاف بهدف ابتزاز المقاومة وإحباطها– غالبيتهم العظمى من المدنيين. وبين هؤلاء المخطوفين (الذين لا يساوون الـ»خطوفيم» بلغة نتنياهو) نساء وأطفال وشيوخ لا يبكي عليهم أحد أو يطالب بعودتهم «لا بَايتا».
وتركز السردية الغربية بعد «الرهائن» على 1.200 مستوطن وجندي من الكيان قتلوا في هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) في وسائل الإعلام الدولية والأوساط الدبلوماسية، لتبرير قتل أكثر من 40.000 شهيد فلسطيني في هذه الحرب وحدها. ويجري قطع السياق بالكامل بشكل تعسفي: بالإضافة إلى الحصار الخانق على القطاع، أسفرت عمليات الكيان المتكررة في غزة منذ 2008 عن استشهاد 4.200 فلسطيني على الأقل، وجرح أكثر من 22.125 آخرين. وقد قتل العدو في عملية «الجرف الصامد» في العام 2014 وحدها 2.322 فلسطينيًا (قرب ضعف عدد قتلى عملية «طوفان الأقصى» من الصهاينة). ولم يثر أي من ذلك شيئًا يقترب من البكاء والغضب العالميين على مقتل الـ1.200 صهيوني. أضف إلى ذلك مئات آلاف الشهداء الفلسطينيين والأسرى والمشوهين وملايين المهجّرين منذ الغزو الاستعماري في 1948 حتى الآن، الذين لا بواكي لهم في الغرب.
الذين يضعون عملية «طوفان الأقصى» في سياقها يعتبرونها عمل مقاومة قام به شعب تحت الاحتلال، كان هروبًا من سجن وهدف إلى رفع الحصار عن القطاع، وتحرير أي عدد ممكن من الأسرى الفلسطينيين في سجون العدو. لكن عمل المقاومة يوصف في السردية السائدة بأنه «عمل إرهابي، وحشي، مذبحة»، في حين يوصف كل عمل الكيان الصهيوني الإرهابي الوحشي المنهجي منذ استعمار 1948 حتى اليوم بأنه «دفاع مشروع عن النفس». وكما حدث في الأيام الأخيرة، كان الثناء الدولي على تخليص أربعة «رهائن» في «مذبحة مخيم النصيرات» مرفقًا بالصمت المطبق فيما يتعلق بقتل 274 فلسطينيًا وجرح أكثر من 698 في نفس العملية. ويعني هذا أن هؤلاء الأربعة أهم بكثير من الأكثر من 900 فلسطيني الشهداء والمصابين، وعشرات المنازل التي تم هدمها، وربما كل الفلسطينيين. ويعكس هذا التعاطف الانتقائي الاتجاه الأوسع نطاقًا حيث تقلل السردية السائدة من معاناة الشعوب الفقيرة وقيمة مواطنيها– أو تجاهلها بالكامل في الخطاب العالمي السائد.
في الحقيقة، لا يُقتصر هذا التقييم غير المتكافئ لحياة البشر على الفلسطينيين، وإنما ينتمي إلى الاستعلاء الأوروبي عل كل الجنوب العالمي، ومنه العرب. ومن التجليات ما كشفت عنه الحرب في أوكرانيا من تحيزات مماثلة. في ذلك الحين، سلط العديد من المسؤولين والمعلقين الإعلاميين الغربيين الضوء على محنة اللاجئين الأوكرانيين، باعتبار أن معاناتهم مهمة لأنهم «يشبهوننا»، أو لديهم «عيون زرقاء» مثلنا. وتتناقض مثل هذه التصريحات بحدة مع المواقف غير المبالية أو العدائية في كثير من الأحيان تجاه اللاجئين من البلدان غير الأوروبية، الذين تعتبر حياتهم– ضمنيًا- أقل قيمة. ونادرًا ما سمع تعاطف مشابه مع معاناة العراقيين، أو الأفغان، أو الأفارقة وكل الذين يُقيّمون بسعر أقل. وثمة تقعيد منطقي لمباعث هذا السلوك التي ينبغي تأملها لوضع هذا الاتجاه القاتل في السياق.