أول من أمس، أقر مجلس النواب الأميركي مشروع قانون مثير للجدل، يجيز فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية. وينص مشروع القانون على اتخاذ إجراءات عقابية ضد المحكمة الجنائية الدولية إذا حققت في جرائم، أو حاكمت، أفرادًا تحت حماية واشنطن أو من حلفائها. وجاء هذا الإجراء التشريعي في أعقاب إصدار المحكمة مذكرات توقيف بحق قاتلي الأطفال بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه، في أول إجراء من نوعه ضد كيان الاستعمار الصهيوني.
وكالعادة، يوجه القرار الأميركي ضربة قوية لنسيج نظام العدالة الدولية الذي يُفترض أنه يقوم على مبادئ الحياد وسيادة القانون. وقد أنشئت المحكمة الجنائية الدولية في الأساس لتقديم المسؤولين عن أخطر الجرائم إلى العدالة، بما فيها الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية. وبسعيها الدؤوب إلى تقويض سلطة المحكمة الجنائية الدولية وحماية أفراد معينين من المساءلة، تؤكد الولايات المتحدة على دورها الرائد في تقويض مصداقية وفعالية القانون الدولي.
للولايات المتحدة تاريخ طويل في تقويض الأنظمة الدولية التي تدعي أنها تدعمها. ومن ذلك انسحابها من "اتفاقية باريس للمناخ في العام 2017، لتعفي نفسها من المسؤولية عن البيئية العالمية وما تعنيه للبشرية. وكان القرار مظهرًا فقط لنمط أوسع من الاستثنائية الأميركية، حيث تعفي الولايات المتحدة نفسها من المعايير والاتفاقيات العالمية بينما تتوقع من الدول الأخرى الالتزام بها واحترامها.
في العام 2002، أقرت الولايات المتحدة "قانون حماية الجنود الأميركيين”، الذي يجيز استخدام القوة العسكرية لإطلاق سراح أي أفراد أميركيين أو حلفاء قد تحتجزهم المحكمة الجنائية الدولية. وأشر قانون البلطجة هذا، الذي يشار إليه غالبًا باسم "قانون غزو لاهاي”، على المدى الذي ستذهب إليه الولايات المتحدة لحماية المجرمين من مواطنيها من الملاحقة القضائية الدولية، حتى أنها مستعدة لاستخدام القوة ضد مؤسسة دولية.
ينطبق نمط التسلط على العالم ومؤسساته على كافة الهيئات الدولية. وكثيرًا ما تحدت الولايات المتحدة وسحبت دعمها من الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات المتعددة الأطراف. وعلى سبيل المثال، في العام 2018، انسحبت الولايات المتحدة من "مجلس حقوق الإنسان” التابع للأمم المتحدة، بتحيز مزعوم ضد الكيان الصهيوني. وكأن كل بقية العالم على خطأ وهي وحدها التي تمتلك الصواب. وقد أظهر هذا الانسحاب استعداد الولايات المتحدة للتخلي عن المحافل الدولية التي لا تنصاع لتفضيلاتها السياسية. وبالنسبة لقضايانا، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض مرات لا تحصى ضد قرارات مجلس الأمن الدولي التي تنتقد الكيان الصهيوني أو تقترح حقًا للعرب والفلسطينيين، لتضع بذلك الكيان فوق القانون والمساءلة الدولية.
لا تمر هذه التصرفات الأميركية من دون تبعات وخيمة على المجتمعات والشعوب الفقيرة في هذا الكوكب، ومنهم الشعب الفلسطيني. بعد رفع الكيان فوق القانون في الأمم المتحدة، تذهب أميركا إلى احتضان جرائم مسؤولي الكيان وعزلهم عن تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية، لتديم فقط دورة الإجرام مع الإفلات من العقاب، وتحرم ضحايا جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان الفلسطينيين من أي سبيل إلى الانتصاف والعدالة. وعلى أساس يومي، يفاقم هذا الموقف من أقوى قوة عظمى معاناة السكان الضعفاء ويجردهم من حق الاحتكام إلى الآليات القانونية الدولية المصممة لحماية حقوقهم وضمان مساءلة معذبيهم.
بطبيعة الحال، لا يخجل القوي من عرض ازدواجيته الفاضحة على رؤوس الأشهاد. كانت هذه نفسها هي المحكمة الجنائية الدولية التي أشادت واشنطن بجهودها ووصفته بأنه مسعى إلى تحقيق العدالة عندما تماشت أحكامها مع المصالح الأميركية. وآخر ذلك تحقيقات المحكمة في جرائم الحرب المزعومة في أوكرانيا في أعقاب الغزو الروسي وإصدار مذكرات اعتقال ضد الروس. ثم تصبح المحكمة فجأة هيئة متجنية متآمرة عندما تورط إجراءاتها أميركيين أو حلفاء أميركيين. ويكشف هذا التأييد الانتقائي فقط عن غياب النزاهة في تقدير نظام العدالة الدولي، وعن نفاق مريض يقوض فقط الثقة العالمية في هذه المؤسسات.
لا يحق لأحد أن يحاسب الولايات المتحدة ومن يلوذ بطرفها على أي شيء، لأن كل ما يفعلونه لا يمكن أن يكون جرائم أو انتهاكات، وإنما أفعال إلهية منزهة عن الخطيئة. وعندما حاولت المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في جرائم حرب محتملة في أفغانستان، شمل جرائم ارتكبتها القوات الأميركية هناك، فرضت إدارة ترامب عقوبات على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، بمن فيهم المدعية العامة آنذاك، فاتو بنسودا. أما أي تحقيقات تجريها الجنائية الدولية في النزاعات الأخرى حيث لا تكون المصالح الأميركية– والكيان- على المحك، فللمحكمة ما تشاء من الدعم والتمجيد.
ما نزال ننتظر أن نرى ما يُدعى "المجتمع الدولي” الذي يبدو أنه يستثنينا من عضويته وهو يتحد دفاعًا عن الحياد وسيادة القانون، ويواجه هذه الهيمنة على آليات العدالة الدولية. ويفترض في الدول ذات السيادة والمنظمات الدولية والمجتمع المدني أن يعارضوا جهارًا التصرفات الأميركية التي تعرض للخطر استقلال وفعالية المحكمة الجنائية الدولية وغيرها من الهيئات الدولية التي يُفترض أن تنصف المظلومين. وينبغي أن يكون نضال البشرية الأساسي الآن هو ضمان عدم وجود فرد أو أمة فوق القانون.
يشكل مشروع قانون مجلس النواب الأميركي لمعاقبة المحكمة الجنائية الدولية إهانة أخرى كبيرة لمبادئ العدالة الدولية، ولكنه يشكل إهانة كبيرة إضافية للأمة العربية، باعتبار أن القضية المنظورة تخص العرب. كما يضيف سلوك الكونغرس دليلًا إضافيًا على حقيقة أن الحليف والشريك الوحيد في منطقتنا هو الكيان الصهيوني، وأن الباقين ممن تسميهم الحلفاء والشركاء لا يُعاملون على قدم المساواة عندما تكون لهم أي قضية مع الكيان. وقد أظهرت الأحداث من هذا النوع وغيره أن كل شيء تفعله الولايات المتحدة في منطقتنا يُصمم فقط لخدمة بقاء الكيان، باعتباره معسكرها الأمامي وحامي هيمنتها ومصالحها في المنطقة، المتعارضة دائمًا مع مصالح وحقوق شعوب المنطقة. وبالتأكيد، يؤكد قانون الكونغرس عدم صلاحية الولايات المتحدة في أي وقت لأن تكون وسيطًا أو مشرفًا على أي عملية عنوانها إنصاف الفلسطينيين أو تحقيق أي شيء من تطلعاتهم الوطنية والإنسانية.
ينبغي الآن، وكان ينبغي دائمًا، أن نسمع في الوطن العربي اعتراضات قوية على قرار الكونغرس وبقية السياسات الأميركية التي تعمل ضد القضايا العربية وكرامة العرب وتضمن دائمًا أن يكونوا المهزومين. وينبغي إعلان عزمهم تحدي أي قرارات دولية لا تتماشى مع مصالحهم وتحددها الانتقائية الحصرية الأميركية المناهضة للحق العربي. ويجب أن ينضموا علنًا إلى المطالبة بنظام عدالة دولي نزيه وفعال حقًا يخدم البشرية بلا تمييز. هذه فترة تضج بالفرص لإسماع العرب العالم نبرة مختلفة ترفعهم من المكان الذي وضعوا أنفسهم فيه– والتي لا يبدو أنهم يغتنمون أيًا منها!