بعد عيش الفلسطينيات مع شعبهن خبرة الاستعمار البريطاني المرة، انتقلن مباشرة إلى مواجهة أسوأ أنواع التجارب الإنسانية: التعرض لاستعمار استيطاني وسيلته المجازر الإجرامية والتهجير القسري تحت الرصاص وسياط الرعب. فجأة وجدن أنفسهن يخرجن مطاردات إلى المجهول، في قطع مستبد لهن عن ماضيهن الشخصي والتاريخي، وتخمين طريقة للبدء مما دون الصفر. وعندما سمعنا روايات أمهاتنا عما واجهنه، كنا نستغرب –وما نزال- كيف تحملن! كيف يستطعن أن يضحكن! وأي قوة خارقة امتلكن حتى بدأن وجودًا جديدًا للشعب الفلسطيني واستمرارية تحت الاستهداف الذي لم يتوقف حتى اليوم. ولمن سمعوا قصص الأمهات والذين يسمعونها ممن تبقى من الجدات، سيعرف أنهن كُنّ قائدات ذلك النهوض الفلسطيني المعجز من الرماد، وأنهن تدبرن توريث الفلسطينية للأجيال كعنصر جيني معطى بالولادة.
ولم تسلم الفتيات والنساء الفلسطينيات من استهدافهن بالقتل والاعتقال والاحتجاز والتعذيب، ويتم استخدام أجسادهن كسلاح في حملة مستمرة من العقاب الجماعي. ويشكل سجن النساء الفلسطينيات -الكثير منهن من دون تهمة أو محاكمة- انتهاكًا صارخًا لحقوقهن وكرامتهن. وتتفاقم معاناتهن بسبب حرمانهن من الإجراءات القانونية الواجبة واستخدام الاحتجاز الإداري كأداة للقمع. كما تتعرض النساء الفلسطينيات للعنف القائم على الجندر -بما في ذلك الاعتداء الجنسي والتحرش- الذي يرتكبه جنود العدو والمستوطنون. وتديم ثقافة الإفلات من العقاب التي تحيط بهذه الجرائم دورة الخوف والصمت.
وفي الشتات، تعيش الفلسطينيات خبرة الشعب الفلسطيني مع الشعور باللاعادية التي يحتمها الاغتراب القسري. وتعيش الكثير منهن في مخيمات اللاجئين، حيث يؤدي الفقر والاكتظاظ ونقص الموارد إلى تفاقم أزماتهن. ويزيد الافتقار إلى الجنسية والقيود التي تفرضها بعض البلدان على اللاجئين الفلسطينيين من إضعافهن وتهميشهن وحرمانهن من الحصول على الحقوق والخدمات الأساسية.. وفي بعض البلدان، تواجه النساء الفلسطينيات قوانين وسياسات تمييزية تقيد توظيفهن وتعليمهن وحريتهن في التنقل، حيث يديم الحرمان من حقوق المواطنة دورة الإقصاء والتهميش، ويُسلم النساء الفلسطينيات إلى النسيان الدائم.
والآن، تواجه الفلسطينيات في غزة أوضاعًا لا تقل سوءا عن تلك التي عاشتها الأمهات والجدات في النكبة والنكسة، حيث يدمر الاستعمار الإبادي منازلهن، ويمزق أسرهن، ويشرد مجتمعاتهن. ولا يترك القصف العشوائي للقطاع أي زاوية من دون أن يستهدفها، تاركا النساء والأطفال مكشوفين بشكل خاص لويلات الصراع. ويؤدي انفصال الأسر وفقدان الأحبة إلى تفاقم الصدمة واليأس اللذين تعاني منهما النساء الفلسطينيات، اللواتي يضطررن إلى الإبحار في مشهد قاتم محمّل بانعدام اليقين والخوف.
بشكل خاص، تواجه النساء الحوامل في غزة رحلة محفوفة بالمخاطر أثناء تنقلهن وتجربة الولادة وسط فوضى الحرب. ويعرض تدمير المستشفيات وغياب مرافق الرعاية الصحية الكافية حياتهن وحياة أطفالهم للخطر، ويتركهن عرضة للمضاعفات والموت. وتزيد ندرة الإمدادات الطبية والخدمات الأساسية والطعام المناسب من معاناتهن. وقد استشهدت أكثر من 9.000 في حملة الإبادة الجماعية ضد غزة، وأصيب وفقد عدد هائل من الفلسطينيات.
مع ذلك، وعلى الرغم من العنف والقمع غير المتوقفين، تلعب النساء والفتيات الفلسطينيات أدوارًا محورية في النضال الوطني الفلسطيني، ويعملن كدعائم لقوة المجتمع الفلسطيني ومرونته، ويتخطين إلى أدوار قيادية ويتحملن مسؤوليات مخصصة تقليديًا للرجال. وسواء كانت المرأة الفلسطينية ترعى أسرة في غياب المعيل، أو تواجه العدو أو تشارك في المقاومة بكل طريقة ممكنة، فإنها تظهر شجاعة وتصميمًا كفلا –ويكفلان- الاستمرارية الوجودية للشعب الفلسطيني.
بينما احتفل العالم بيوم المرأة العالمي قبل ثلاثة أيام، فإنه تناسى محنة النساء الفلسطينيات في غزة أو تجاهلها، واستثناها مما يدعيه من دفاع عن حقوق المرأة وإنسانيتها. وكما يحدث مع الشعب الفلسطيني بكل مكوناته، فإن عدم اكتراث العالم بمعاناة الفلسطينيات يعكس نفس النفاق المفضوح، حيث تُترك الفلسطينيات لتحمل وطأة العدوان الوحشي مع القليل من الدعم أو التضامن -أو من دونهما جملة وتفصيلًا.
إن معاناة المرأة الفلسطينية هي جزء من معاناة الشعب الفلسطيني، وانتهاؤها مشروط بزوال الاستعمار وحرية الفلسطينيين. وسوف يؤدي فشل المجتمع الدولي في محاسبة الكيان الصهيوني على جرائمه ضد الإنسانية إلى إدامة دورة العنف والظلم -إلى أن يجني الفلسطينيون ثمار نضالهم ويتمكنون من انتزاع حريتهم وحقوقهم بأيديهم.